مقاومة الغُربة بـ "الدبكة".. فرقة الفالوجا "بيت للفلسطينيين" في مصر
كتبت - إشراق أحمد:
تصوير - جلال المسري:
الآن أصبحت إيمان عادل تعرف حكاية تهجير أهلها من فلسطين. تروي الشابة التفاصيل بيقين ومحبة لم تذقها بالسابق، فقبل ثلاثة أعوام كانت كل معرفتها أن أصولها من هناك، قرب الحدود المصرية بنحو 30 كم حيث تقع مدينة غزة، وأنها فلسطينية من أبوين ولدا مثلها في القاهرة. تنقضي سنواتها وتذوب هويتها إلا من تلك المعلومة، حتى انضمت لفرقة الفالوجا، وقتها باتت أسماء المدن تتردد على سمعها، وفرضت عليها أسئلة جديدة "إزاي جدودي وصلوا مصر.. وإيه اللي بيحصل في فلسطين؟"، منذ هذه اللحظة لم يعد يشغلها فقط رقص "الدبكة" التي التحقت بالفرقة لأجلها، بل موطنها "الفالوجا عرفتني يعني إيه فلسطين".
كل يوم جمعة، وبين 40 عضوًا من مختلفي الأعمار، تجدد إيمان عهدها مع فرقة الفالوجا للتراث الفلسطيني. يلتقون داخل مستشفى فلسطين، على مسرح يحمل اسم "القدس" وبُني خصيصًا لأجل الفرقة عام 1983. يستقبلهم مديرها رفيق الطويل، يبادلهم ما شهده الموطن البعيد مؤخرًا من صفد شمالاً، مرورًا بالقدس وغزة، نهاية بالنقب الجنوبي. يشاركهم الحلم بعبير طرقات الأراضي المحتلة، يعيد فيهم ما بدأه حين كان ضمن طلاب معهد التمريض قبل 35 عامًا "كنت من الدفعة الأولى للفرقة وقت لما تأسست للحفاظ على التراث الفلسطيني".
"إيش دخل الخدمات الطبية في الفن والدبكة؟" مبتسماً يستعيد الطويل كيف تشكلت الفرقة؛ في الوقت الذي شهد توترًا على الساحة الفلسطينية بحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات، في مدينة طرابلس السورية وقت الثمانينيات، اقترح مدير مستشفى فلسطين فتحي عرفات على صديقه الشاعر المصري زين العابدين فؤاد "يتعمل حاجة ثقافية تحفظ هوية الفلسطينيين في الشتات"، فلم يكن هناك أفضل من رقص "الدبكة" معبرًا عن تراث فلسطين.
كان الطويل شابًا في السابعة عشر من العمر، حين فضل الالتحاق بالهلال الأحمر الفلسطيني في مصر، ومن ثم العمل في مستشفى فلسطين لخدمة المرضى والمصابين القادمين من الوطن المحتل، لكن حين جاءت دعوة عرفات بتأسيس فرقة للدبكة، تلاقت مع رغباته "متل أي فلسطيني بحب الدبكة لكن كمان وقتها شوفت فيديو لجامعة في أمريكا وصدمت لما رأيتهم بيتكلوا عن دبكة عنا إنها تراث شعب إسرائيل"، اُنتزعت هوية الرقصة التي يعرفها الطويل باسم "دبكة مريومة" وأبدلوها باسم "سلومة"، لذلك سرعان ما لبى الرجل الخمسيني الندا والتحق بالفرقة.
أصبحت الفرقة جزءًا من حياة الطويل، تمضي 35 عامًا، يتفرغ زملائه لحياتهم، لكنه اختار أن يقسمها بين العمل صباحًا في الهلال الأحمر، ثم يمضي إلى مسرح القدس لتدريب أجيال جدد على معرفة الوطن واستقبال قبلتهم وقت أن يحين موعد حفل جديد "إحنا تقريبًا قدمنا عروض في 90 % من محافظات مصر".
على مسرح حزب التجمع الناصري، انتظر أعضاء الفرقة تقديم عرض جديد في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني. تُعدل إيمان من زيها السماوي اللون والمطرز بنقوش فلسطينية، غاب القلق عنها، إذ باتت الشابة الجامعية تتقن الدبكة وتتحدث بلكنة موطنها رغم اعتيادها اللهجة المصرية "فلسطين كانت بس في البيت مع أسرتي وكل اللي حواليا كان مصري حتى الأصدقاء لكن من ساعة ما دخلت الفرقة وفلسطين جزء أساسي من حياتي".
لم تجد إيمان ضرر في "مصريتها"، لكنها حزنت لجهلها بوطنها الأصلي، بل سكن فضولها حتى عن السؤال، إلا أنها اليوم أصبحت تحمل على هاتفها خريطة فلسطين لتعرف موقع جذور رفاقها من قرية جدودها في المجدل، وبهذا تضيف لحصيلتها معلومة جديدة عن البلاد البعيدة.
تخرج إيمان ورفاقها لتقديم استعراضهم، فيما يلوح بأفق مدربها، تاريخ أول عرض موسع للفرقة، كان أيضًا في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، أقيم على مسرح الجمهورية، لكن عام 1985، في السنة الثامنة من دعوة الأمم المتحدة لإحياء ذلك اليوم في التاسع والعشرين من نوفمبر.
يشترك مَن بالفرقة في الجمع بين اللهجة المصرية والفلسطينية، وكذلك يحمل الاسم الهوية المشتركة لأعضاء "الفالوجا"، إذ يشير إلى المدينة الفلسطينية التي تقع بين الخليل وغزة، وتمركز فيها الجيش المصري عام 1948 أثناء الحرب مع القوات الإسرائيلية، وكان من بين الضباط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
جميع أعضاء "الفالوجا" ولدوا في مصر، باستثناء مدربهم، إذ ولد في الأردن وأقام بها حتى العاشرة مما جعله محافظًا على لكنة أهل فلسطين.
وأيا ما كانت طريقة معرفة أعضاء الفرقة بها، فإنها تعود لمعهد التمريض، كان والد إيمان طالبًا فيه، وكذلك والدة ألاء أيمن عبد المعطي، بل وكانت "بتدبك"، مما جعلها تدفع ألاء وأشقاءها الأربعة كي يتعلمون الدبكة.
تبلغ ألاء من العمر 20 عامًا، فيما تصحب معها أصغر أشقائها مريم وندى، توقن الشابة أن هذا ما تملكه "أحنا بنحارب عن طريق الفن"، ففي رؤية الحضور لاستعراضهم وسماع أغانيهم والتمعن في زيهم، وترديد اسم "الفالوجا للتراث الفلسطيني"، تذكرة بوجود فلسطين، فلا يمحى أبدًا رغم كل محاولات الإحتلال.
نحو 4 ألاف فلسطينيا مروا على "الفالوجا" حتى الآن، يفخر الطويل بذلك أكثر مما حصدوه من جوائز ومشاركة في مهرجانات دولية، آخرها مهرجان الأفروصيني للموسيقى في أسوان.
يوقن المدرب أن ما تفسده السياسة يصلحه الفن، يرى بعينيه تأثير ذلك في أعضاء الفرقة، كل جمعة، وأثناء تقديمهم العروض، يعلم أنه ذاته ما أبصره قبل 35 عامًا، يوم أن كان راقصًا للدبكة.
على مسرح القدس، داخل مستشفى فلسطين، حين كانت عروض الفالوجا مقتصرة على مكان تأسيسهم، وقتها زُلزلت المنصة بهتاف مصاب فلسطيني، بترت إحدى رجلاه وتعاني الأخرى "استوقف العرض وهتف للفرقة وفلسطين"، وقتها شعر الطويل أن "حتى المريض محتاج فن. محتاج يحس في لحظة أنه في فلسطين".
لأجل هذا لم يغادر خالد الفحم الفرقة منذ 10 أعوام حتى أصبح مدربا فيها. "زوجتي بتقول لي أنت اتجوزت الدبكة"، ضاحكًا يوضح تعلقه بما يفعل. تبدل الحال بالدبكة "كان الأول بتكون مع عازفين بشكل مباشر لكن اليوم أصبحت على أغاني مسجلة"، غير أن هذا لم يغير من حقيقة اختلافه منذ التحق بالفرقة، فرغم عمره المتجاوز الثلاثين ربيعًا لكن معرفة فلسطين حصلها في الفرقة، وأصبح اليوم ناقلا إياها لمن تلاه.
يرى الفحم أن المحبة صنيعة الاستمرار، فلا عائد ولا جزاء يرجع على المنتمين للفرقة "مفيش فرقة تقدر تكمل خارج وطنها بالشكل ده غير لأن الولاد حابين الموضوع".
يواصل رفاق "الفالوجا" مسيرة ممتدة لثلاثة عقود، يحتضنون أعضاء جدد من مصريين فلسطينيين الهوى، وآخرين جدد مثل صوفي حسن، جاءت من غزة فرارًا من الحصار قبل 6 سنوات، وانضمت للفرقة منذ نحو 5 أشهر، فهنا على مسرح "القدس" يجد اللاجئين الفلسطينيين ضالتهم كما يؤمن الطويل "خلقنا بعيد عن الوطن لكن الفرقة خلقت جوانا وطن"، فما إن تدار أنغام الموسيقى الفلسطينية، يحمل كل منهم في دبيب أقدامه التحية إلى الوطن المحتل حتى لقاء قريب "حلمنا نعمل حفلة في القدس".
فيديو قد يعجبك: