موسم العودة إلى الصعيد| حكايات ومتاعب من رصيف نمرة 11
معايشة- مها صلاح الدين
تصوير - عبدالرحمن سيد
على رصيف نمرة 11 داخل محطة مصر بميدان رمسيس؛ يختلف المشهد تمامًا عن أي رصيف آخر بالمحطة بسبب الأعداد الغفيرة التي تأتي من كل حدب وصوب إليه، وكأنه يوم الملتقى، جالسين، أو واقفين، أو نائمين أو مستيقظين يفترش الركاب الصعايدة الرصيف بالكامل، فلا يمكنك المرور عليه إلا بصعوبة بالغة.
"مصراوي" رصد متاعب أبناء الجنوب في موسم العودة إلى أرض الجذور.. أثناء تجوالنا على الرصيف المخصص للوجه القبلي وجدنا أحمد ومحمد وهما أخوان من محافظة سوهاج يجلسان على "جوالين ضخمين من الورق"، جلبهما أصغرهما سنًا ليبيعهما في مسقط رأسه.
مساء أمس، وصلا إلى محطة مصر يجلسان على الأجولة تارة، ويفردان أجسادهما عليها تارة أخرى حين يغلبهما التعب، ينتفضان ويحملانها كلما وصل قطار، يتدافعان أمام أبوابه في محاولة للدخول، لكن الأجولة الثقيلة تصعب المهمة، فالقطار عادة ما يأتي ممتلئًا بالركاب من المخزن، فيلقيان بالأجولة مرة أخرى على أعتاب القطار ويجلسان، لا يباليان بالمتدافعين والصاعدين إليه، لن يكونا من بينهم في أي حال، وعليهما انتظار قطار به متنفس.
يقول محمد وهو ينظر بيأس نحو بوابة عربة القطار المواجهة له: "الدنيا هنا موت.. زحمة، والناس نايمة فوق بعضيها، لا حد عارف يطلع ولا حد عارف ينزل"، يصيح أحد المتدافعين، وهو يحاول جذب رجل آخر يحمل رضيعة في شهورها الأولى نحوه: "اعتبر نفسك في التجنيد يا أخي"، يرد محمد عليه صائحًا بغضب: "حتة عيلة زي دي يركبوا بينها ازاي.. دي حتة لحمة حمرا".
لا يعلم محمد وشقيقه متى يتمكنا من الفوز بالدخول إلى عربة قطار، وفقًا لناظر المحطة سيد يحيى، هناك قطار متوجه نحو الوجه القبلي يخرج كل نصف ساعة، في العادة يخرج 31 قطارا يوميًا، زاد عليها 5 قطارات في أيام العيد لعامة الركاب، و5 أخرى أطلق عليها "قطارات مخصوص"، للرحلات نحو النوبة، يقوم بحجزها شيوخ القبائل، ومشرفو الرحلات.
"إحنا بايتين هنا.. بناكل ونشرب وننام هنا.. ومنعرفش هنركب النهارده، ولا هنبيت الليلة كمان"، يقول محمد بحزم، اعتاد منذ سنوات على هذا المشهد، فلم يعد غير مألوف بالنسبة له، فالتعايش داخل "رصيف نمرة 11" ليس صعبا، بائعو السندوتشات والمياه والحلوى، يتناثرون في كل مكان به، تتناسب بضائعهم مع جميع الطبقات، فمنهم من يقف بصينية ممتلئة بأرغفة العيش البلدي المحشوة بالفول والطعمية، ومنهم من يجوب الرصيف جيئة وذهابًا بعلب الكشري، وهناك أكشاك أخرى تبيع سندوتشات اللحوم، وعلب المياه الغازية بأسعار سياحية.
في مواجهة أحد تلك الأكشاك، تجلس "غالية" على أرض الرصيف، تسند ظهرها على إحدى الحوائط، تشير بوجهها الذي بدى عليه الإعياء نحو رجل يقف إلى جوارها، "صليب غطاس"، ابن عمها، حضر برفقتها من أسيوط إلى القاهرة منذ يومين ليذهب بها إلى مستشفى الدمرداش، ليتممون إجراءات علاجها على نفقة الدولة، كي تجري عملية جراحية لعلاج صمامها الرئوي المسدود.
تصادف موعد عودتهم إلى بلادهم مع عيد الأضحى، وكانت النتيجة هكذا: "ده تالت قطر يفوتنا، ومش قادرين نروح"، منذ الواحدة ظهرًا وغالية وابن عمها يلزمون "رصيف نمرة 11"، ولا يستطيعوا الركوب من فرط الزحام على الرغم من قدوم قطارًا كل ساعة، يبرر ذلك "صليب" وهو يشير نحو قطار قادم: "القطر بييجي من المخزن مليان، الشباب بيروحوا يركبوه من المخزن، اللي بيقدر بيشيل حاجته، ويروح يركب من هناك، وهي عيانة ومش قادرين".
وقف علي، الشاب العشريني، إلى جوار زوجة عمه وأطفالها الأربعة، افترشوا أرض الرصيف من فرط التعب، بعد أن وصلوا إلى المحطة قبل موعد قطارهم المكيف المتوجه نحو المنيا بساعة كاملة، حرصوا على حجز تذاكره منذ ما يقرب من أسبوع كامل، لكنهم لم يتمكنوا حتى من الوصول إلى باب العربة بسبب تدافع الناس.
"مش عارفين نركب أي قطر، ومعانا التذاكر، لكن واقفين بقالنا 3 ساعات، معرفناش نركب من الناس"، يقول علي، الذي يعمل نجار في القاهرة، ويعيش لدى عمه تاجر الأخشاب، اعتادوا زيارة الصعيد كل عام في الأعياد، تارة يحالفهم الحظ وتمر السفرية بسلام، وتارة أخرى لا يستطيعون الركوب.
ذهب شقيق والد علي ليواجه تدافعا آخر أمام شباك تذاكر القطارات، على أمل الحصول على تذاكر أخرى سواء كانت لقطار مكيف أو مميز أو نوم، "أو هنروح نركب ميكروباص من بره"، حسم علي الجدل بحل آخر، إن لم ينجح عمه في مهمته.
أما ناظر المحطة، سيد يحيى، كان وقتها في مكتبه يحسم جدلًا من نوع آخر، حينما توافد عليه الساقطون من رحلة القطار المكيف بسبب التدافع، "لا يمكنني تعويض أحد، خرج القطار من المحطة والكرسي بالفعل محجوزًا، لا يمكن استرجاع تذاكر فاقدي الرحلة أو تعويضهم برحلة أخرى، لكن القطار العادة يمكن ركوبه في أي وقت ومن دون حجز"، فيخرج الشاكون من مكتبه بوجوه عابسة، يقذفون العبارات الغاضبة، ويتهمونه بالتقصير في ضجر.
عطيات وصديقتها، صاحبتا البشرة السمراء، كانت جلستهما أكثر سكينة على مقاعد الانتظار، حتى يتجمع رفاقهما في رحلتهم نحو النوبة: "أنا عايشة هنا بقالي سنين، اتجوزت وعشت في القاهرة، لكن برجع أسبوع كل سنة"، تحكي السيدة النوبة بابتسامة عريضة، عن تفاصيل رحلتها السنوية في العيد الكبير نحو مسقط الرأس، تقول بسعادة إن الجالية النوبية حريصة على حجز قطار "مخصوص" يحمل النوبيين إلى بلاد الدهب وما حولها، وكل منهم له عربة خاصة، يقسم بحسب البلاد، عربة للمتوجهين نحو أسوان، وأخرى إدفو، وأخرى توشكى، وكل مجموعة تعرف العربة المخصصة لها.
لا يوجد تدافع في تلك الرحلة، وتنظم من خلال مشرفين بمبلغ رمزي، 90 جنيهًا ذهابًا وعودة، وعلى الرغم من كل ذلك حرصت السيدتان على المجيء إلى محطة مصر قبل موعد القطار بـ 4 ساعات، خوفًا من التدافع، أو حدوث أي ظرف طارئ.
وقبل نهاية الرصيف 11، جلست "هويدا" التي لا يزيد عمرها على ثلاثين عامًا، تتوسط صغارها الثلاثة، في انتظار قطار تستطيع أن تصعد إليه بصحبة أطفالها بأمان، اشترت لهم علبة من الكشري ليسدوا بها رمقهم قبيل بداية محاولات التدافع.
"بسافر أنا وولادي لوحدي، جوزي مبيجيش معايا، بيشتغل أرزقي، يوم بيومه عشان نعرف ناكل" تقول "هويدا" التي اعتادت أن تصطحب أطفالها وتسافر إلى بلدها بني سويف، كل شهر مرة، لزيارة أبويها، وتكمل: "سفرية كل شهر بيبقى جوها هادي عن كدة، إنما في العيد مبنعرفش نركب.. القطر كان واقف، معرفناش نركب أنا وولادي".
كلما يدخل قطارًا إلى الرصيف، تجتذب أيادي أطفالها، وتحاول التدافع وسط المتدافعين، لكن تعليقات الناس تحط من عزيمتها، مثل: "إنتي معاكي عيال.. أحسنلك تروحي تركبي عربية"، تصمت بمرارة، وتندفع صارخة وكأنها ترد عليهم: "أنا معييش فلوس أركب عربية، العربية بـ40 جنيه.. على ما أوصل لبيتي هحتاج 50 جنيه.. وأنا معييش الـ50 جنيه"، تغالب دموعها قبل أن تجهش في البكاء، تعود إلى صمتها مرة أخرى، وتترقب القطار القادم.
فيديو قد يعجبك: