مصراوي يرصد رمضان بالقدس.. الأحبة تلبي نداء المدينة العتيقة
كتبت-إشراق أحمد:
بحلول شهر رمضان، يكون لجيهان السرساوي فرحة خاصة. طيلة أربعة أعوام تنتظر السيدة المقيمة في مدينة رام الله الفلسطينية مثل هذه الأيام، شوقًا ليوم الجمعة من كل أسبوع، ففيه تزيد فرصتها كوافدة لدخول القدس المحتلة بدون تصريح، فيما يتأكد للمقدسي محمد الفاتح أن نفسًا بالحياة سيدب في مدينته الحزينة طيلة العام، وأن كتفًا وافدًا ينضم لزمرة المقدسيين ليؤنس المسجد الأقصى وشوارع زهرة المدائن، فيبعث البهاء الباهت بفعل الاحتلال.
ما إن ترى جيهان شروق شمس الجمعة، حتى تُلبي نداء القدس. كاشتياق للقاء حبيب، تحمل حقيبتها، لا شيء فيها سوى هويتها وزجاجة مياه مثلجة تغلفها بقطعة قماش، لتحفظ برودتها حتى الغروب، بالإضافة إلى بعض الأموال "بروح ولو بمبلغ بسيط يكون دعم لأهلنا في القدس". وربما تعود بتذكار لحين لقاء آخر.
ومن سلوان، القرية الأقرب للمسجد الأقصى –تقع على الحدود الشرقية- يوميًا يشد "الفاتح" العزم، مصطحبًا كاميرته وهاتفه، يتحين لالتقاط لحظات جديدة في عمر القدس وأولى القبلتين، يتجول صانع الأفلام والمصور في طريق اعتده منذ عرفت خطاه طريقها إلى الأقصى.
طريقان مختلفان يتخذهما كل من جيهان والفاتح إلى الأقصى، قلب القدس، لكن كل منهما يتقاسم معاناة أهل فلسطين في الانتقال على أرضهم. يلزم تخطي جيهان لحاجز قلنديا العسكري حتى تبلغ العاصمة الفلسطينية المحتلة "المسافة ما بين رام الله والقدس بالسيارة ممكن تكون ربع ساعة لكن نحنا بسبب الاحتلال ممكن تصل لساعة ونصف وأكتر".
تمر اللحظات كالعمر، في المعبر الذي أقامه الاحتلال عقب انتفاضة الأقصى، عام 2000، ليفصل بين سكان الضفة الغربية والقدس. تتحمل جيهان الانتظار بين الحشود المتطلعة لرؤية المدينة المقدسة "آلاف بيدخلوا عبر بوابة لا تتجاوز نصف متر عرض وطولها متر ونص وفيها أسلاك شائكة، وحلابات –قلابات- لما يدخلوا اتنين أو تلاتة بينحشروا" تحكي السيدة لمصراوي عن مشقة الوافدين.
قرب باب العمود يحط الوافدون. في الطريق إلى قبة الصخرة، يمرون بشارع نابلس، فيه عدة أسواق، من بينها سوق متنقل يُطلق عليه "باسطات"، وبتخطي باب العمود يظهر تمركز بؤر عسكرية لجنود الاحتلال، وهو ما أصاب جيهان بالصدمة في زيارتها للقدس أول مرة عام 2014 "لقيت الاحتلال بجنده وسلاحه وسياراته، الحروف العبرية بكل مكان. أها نحنا عارفين أنه موجود لكن مكنتش متخيلة أنه بهاي التغلل والبشاعة".
تتألق البلدة القديمة من بعد، بمحلاتها المصطفة على الجانبين، وهنا تتجلى خيرات القدس، وفي رمضان تزيد كما يقول ابن مدينة سلوان "في دكاكين بتفتح خصيصًا لأن بتصير حركة الناس اللي جايين يصلوا في الأقصى أكتر وهاد الشيء بيخلي الناس تنزل والسوق بينتعش".
ربع ساعة ما يستغرقه الفاتح للسير من منزله في سلوان وحتى الأقصى، يُقدر المسافة بنحو كيلو مترًا، لذلك كان قبلته الأولى منذ طفولته، اعتاد فيها قواعد السير "بيكون فيه نوع من التحدي والقوة في مشيتنا"، كذلك يتم في مجموعات "عشان ما يصير اعتداء من اليهود علينا".
في رحلته اليومية، والتي تزيد في رمضان يتشابك الفاتح بين المعالم العربية وما صنعها الاحتلال، يسير بين بيوت المقدسيين ثم يمر على البؤر الاستيطانية بين منازل العرب، وبدخوله باب المغاربة، يزداد أعداد اليهود، فتختنق نفس الشاب إلى أن تُرد له الروح مع الوصول إلى باب السلسلة، بعودة الحالة العربية للمشهد ثانية.
باب السلسلة في رمضان له طابع خاص لما تُجرى فيه من أحداث مواجهة مع الاحتلال كما يقول الفاتح "دايما بيكون باب خروج اليهود لما يقتحموا المكان"، لهذا يتعمد المقدسيون أن تكون المنطقة في أبهى حلتها طيلة هذه الأيام "بتكون في زينة جديدة كل سنة".
"رمضان في القدس غير" يوقن بها كل مَن يسكن المدينة المحتلة أو يفد إليها، تتهيأ زهرة المدائن متحدية الاحتلال، الأضواء تُلالي بين المباني، الأطعمة والعصائر تكسو واجهات المحلات، فيما لا تتوقف المخابز عن إنتاج أشياء تخص شهر رمضان.
لا غربة بالدخول في زمام القدس والأقصى، يذوب الوافدون يصيرون جسدًا واحدًا، وفي باحة أولى القبلتين يتشاركون الإفطار، على مائدة زادها المحبة وما توفر من طعام تقدمه مؤسسة الأوقاف وجهات مقدسية عدة، القليل فيه كثير "كلنا بناكل نفس الشي الموجود ويضل معنا لغاية السحور" كما تحكي جيهان.
نفحة بلوغ الأقصى تهون أي عسير لقاه جيهان والفاتح؛ تفيض روح جيهان بالطاقة، تمضي تصلي في كل بقعة، تلتقط الصور، تلبي نداء المعارف والأصدقاء ممن علموا بشدها الرحال، فتدعو لهم، وتمنحهم هدية بكتابة أسمائهم على ورقة وتصورها أمام معالم المكان.
أما الفاتح في هذه الأوقات يزول عنه إحساس "أن القدس راحت من إيدينا"، ويتخفف الشاب مما يصفه بنكبات متتالية "ممكن في نفس الحي نشوف عدة أحداث كلها مؤلمة.. مبنبقاش عارفين وين نروح. نروح على المقبرة اللي بيدنسوها ولا الأسرى ولا الأقصى"، لذلك يصبح رمضان في الغالب بمثابة هدنة، استراحة محارب للمقدسيين.
"لما بيجي رمضان بنحس أن المدينة استرجعناها" يقول الفاتح، يأتي المدد لأهل القدس البالغ تعدادهم قرابة 300 ألف نسمة، يتوافد المصلون من المدن الفلسطينية المجاورة، يملئون أرجاء الأقصى، فتقهر عزوة الفلسطينيين محاولات خنق المقدسيين، ولو لساعات تمتد لمطلع الفجر "الناس اللي بيجي ما بيعملوا تغيير سياسي بس بيكون تغيير في الجو والمعنويات".
على مدار الجمعتين الماضيتين لم تلق جيهان مضايقات من الاحتلال في طريقها للقدس، ترى أنهم تجنبوا الاحتكاك مكتفيين بالمواجهات على نقاط التماس، ومع ذلك حال السيدة الأربعينية هذه المرة كان مختلفًا.
استشعرت جيهان أن الحزن يخيم أرجاء المدينة العتيقة "حسيت كأنها تقول أنا وحدي وكل العالم تركني وسابني في إيد المغتصبين" تبكي بينما تحكي عن تضخم إحساسها بالتقصير مع ذهابها هذا العام، إذ تعلم أن الاحتلال صار مدعومًا في إعلان القدس عاصمة لدولته.
فيما يعيش الفاتح رمضان هذا العام "شبه اعتيادي" وإن كان لا يخلو من المواجهات والمناوشات مع الاحتلال، وذلك خلاف أخر مرة تغيرت فيها ملامح الشهر في عام 2014، إذ شهدت تلك الفترة حرق الطفل الشهيد محمد أبو خضير، فضلاً عن حرب غزة "كان جو انتفاضة أكتر منه جو رمضان، وقتها تم إطفاء كل أضواء البلدة القديمة الخاصة بهذا الشهر".
أما التغيير المتعلق بأحداث نقل السفارة الأمريكية، فيرى أنه لم يظهر بعد في الأجواء، معتبرً أن سياسة الاحتلال تعتمد على "النفس الطويل" حال كل خطة يقومون بها، وهو ما يتسلل لنفس جيهان بينما يأتي موعد لقاء جديد لها بالعاصمة الفلسطينية المحتلة "ما حد يعرف يمكن يكون آخر رمضان إلنا في القدس" تقولها بينما تختنق بالدموع.
بمشاعر طفل صغير زارت جيهان القدس لأول مرة عام 2014، حينما غادرت غزة لتسكن مدينة رام الله، حينها غامرت بالزيارة "أول شيء عملته بلغت السائق أني بدي أقضي اليوم كامل بالأقصى وارجع قبل 12 بليل". ليوم واحد هو ما يصرح به الاحتلال لتواجد أي فلسطيني من خارج القدس، نهلت عينا السيدة الأربعينية حينها من المدينة، وغادرتها بشوق لا ينضب "انتظارنا للجمعة كانتظارنا لأيام العيد. لما بروح بحس أني مو ماشية على كوكب الأرض".
يظل الأقصى عقيدة لزائريه، ولابن مدينة القدس حياة لا تتوقف تفاصيلها، وإن مسه ألم تبدل الأحوال، يمر الفاتح على دروب المسجد حتى في صباحات هذه الأيام، يئن لخلوه باكرًا إلا من أفراد قليلة وحراسه، يلتفت للجنود المدججين بينما يمرحون في ساحاته، يحرسون المقتحمين من الصهاينة، فيما يتذكر كيف كان وهو طفل ينطلق دون قيد "كنت العب وأروح وأكل وين ما بدي"، ولا يجرؤ جندي توقيفه على البوابات "الدور الأقوى كان لموظفي الأوقاف الأردنية، ولما يوقفنا حدا ممكن نطلع فيه بنظرة ليش تحكي معي، مين أنت عشان تحكي معي".
تمر أيام رمضان هذا العام، بينما يواصل الاحتلال سطوته على الأقصى والقدس، منع أي نشاط تربوي أو ترفيهي يقام داخل المسجد كما كان، حتى مصاطب العلم أصبحت بمواعيد مسائية مفروضة وملاحقة، باتت الكاميرات تراقب مَن يوزع الهدايا على الأطفال أو يقيم حلقة قرأن للصغار كما يقول الفاتح.
يوقن صاحب السابعة والعشرين ربيعًا أن هناك تعمد إسرائيلي لقطع صلة الأجيال الصغيرة بمسجدهم ومدينتهم، لهذا سخر كاميرته لإحياء لحظات الانسجام بين المقدسيين ومكانهم، فترنو عدسته من أب يصطحب أطفاله للصلاة، يسجل ضحكاتهم، روحانيتهم، انطلاقهم للحظات، يعتبرها رسالة تشجيعية لتجنب هجرة المكان، ففي استمرار تلك الحياة قهر للاحتلال.
وبينما تمضي الجمعة الثالثة من شهر رمضان، تعكف جيهان على تلبية النداء، وكذلك يواصل الفاتح التقاط الصور وصناعة أفلام قصيرة تنقل الحياة داخل مدينته المقدسة، لا تنقطع قدماه عن التجول في أرجاء القدس والأقصى، ولا عيناه عن البحث "بحس وأنا ماشي بدور على أطفال عشان أصورهم بدور على طفولتي اللي سُلبت من هاي المكان لربما محاولة لإعادة هاي الطفولة اللي كنت اعيشها".
فيديو قد يعجبك: