لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بعد إعطائه الأوقاف مهلة.. هل يفقد أهل "الربع" مكانهم؟

01:50 م الخميس 20 ديسمبر 2018

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:

بينما ينهمك ممدوح السيد في تركيب الأرضيات الجديدة لمسرح مركز "فدا"، جاء الخبر "الأوقاف هتاخد المكان.. كلها أيام". تسمرت قدما موظف الأمن كما فعلت دموعه "هسيب المكان اللي لقيت فيه نفسي.. ده عشانه سبت شغلي القديم بعد 40 سنة". لازال يردد الرجل الخمسيني الكلمات في نفسه كلما نظر إلى رسوم الحائط، صنعة يديه التي نفذها لأول مرة في حياته داخل أرجاء مركز الربع الثقافي.

في الثاني عشر من ديسمبر الجاري أعلن مركز الربع الثقافي الكائن في شارع المعز، التابع لمنطقة الجمالية، أن "وزارة الأوقاف قررت استرداد المباني وطردهم من المكان خلال الشهر الحالي"، وأن القائمين فقدوا كل وسائل التحاور السلمي والحلول الوسطية مع الهيئة.

1

نحو 52 فردًا يعملون داخل الربع، ما بين مدرسين في 6 فصول لمحو الأمية والحضانة وموظفين في المكتبة والوحدة الصحية، ورجال أمن وعاملين نظافة، معظمهم من أهالي الجمالية كما يقول سامح منير، المدير التنفيذي لجمعية أصدقاء البيئة والتنمية (فدا) التي أقامت ثلاثة مباني بالتعاقد مع وزارة الأوقاف، لتقديم العديد من الأنشطة إلى سكان الجمالية في الأساس.

يجلس "منير" في ساحة "الربع" يتباحث مع رفاقه سبل الإبقاء على المكان، مازال العمل مستمرًا، لكن الملامح يشوبها الحزن، كلما مرت الأيام دون حل يمنعها عن الرحيل.

صورة 2-الربع قبل إعادة إعماره

عام 1999، بعد ست سنوات من الإنشاء أخرجت "فدا" دراسة لمشروع أُطلق عليه "التنمية المتواصلة بالجمالية". ضمت الجمعية المشهرة برقم 4629 أساتذة جامعة وخبراء واستشاريين في مجالات عدة، أشهرهم عدلي بشاي، أستاذ العلوم بالجامعة الأمريكية، ورئيس الجمعية، حينها وقعت أبصارهم على 6 وكالات مهملة وغير مستغلة في المنطقة القديمة فقرروا الاستفادة منها.

تتبع تلك الأراضي هيئة الأوقاف المصرية. تواصل القائمون على "فدا" مع المسؤولين، وتم الاتفاق على تولي الجمعية إعمار المكان ليكون قبلة أهالي الجمالية لتنمية حياتهم في نواحي شتى. قبلت الأوقاف أن ينتفع بثلاث وكالات طيلة 15 عامًا تتجدد بموافقتها كما يقول المدير التنفيذي لـ"فدا".

3

في ذلك العام من التسعينيات، اعتادت منال لطفي أن تمر على المنطقة، بحكم كونها من سكان الجمالية. طالما رأتها منزوعة الحياة "كانت خرابة.. بيوت مهدودة ودمار"، حتى سارت يومًا ووجدت عمليات بناء، فظنت أن المكان سيشهد مستشفى جديدًا.

كانت منال عروس جديد حين رأت موقع "الربع" قبل أن تصبح جزءا منه في 2006 عقب عام من افتتاحه. دخلت صاحبة الأربعة والأربعين عاما المكان بالصدفة، حين أعلنوا عن حفل تكريم للحاصلين على شهادات محو الأمية. كان ذلك أول عمل لـ"أم مازن" لمساعدة زوجها في النفقات.

تنفعل السيدة بينما تذكر استقبالها لاحتمالية الغلق "حسيت أن بيتي اتخرب. طيب أروح فين واجي منين.. المكان ساعد وعلم ناس كتير". تزفر أنات طويلة فيما تتخيل دخول دائرة البحث عن عمل مرة أخرى " بعد 13 سنة أروح ادور على شغل. بعد العمر ده كله".

تشير "أم مازن" إلى ابنتها الصغرى "مي"، تبتسم بينما تقول "أنا ولدت بنتي دي هنا"، تُعدد بتأثر أسباب ارتباطها بالمكان؛ داخله محت السيدة أميتها وبلغت الصف الأول الثانوي، وحضرت مع سيدات الحي العديد من الندوات.

4

ثلاثة مباني يضمها "الربع"، إحداها لورش الصناعات البيئية واليدوية، وثانية للمعارض، وثالثة تحتوي مسرح وقاعة باسم "نجيب محفوظ"، ومنصة في البهو المفتوح استقبلت العديد من الفرق الموسيقية وهواة إلقاء الشعر، اتخذها العديد من الشباب متنفسًا لعرض موهبتهم أمام جمهور.

على مساحة 3607 متر مربع تقع المباني. استغرق سبع سنوات لتأسيسها على طراز يشبه طبيعة شارع المعز الأثرية، بتكلفة تقدر بـ18 مليون جنيهاً، كما يتحدث المدير التنفيذ لجمعية أصدقاء البيئة، عن دعم صندوق مصر السويسري للتنمية، فيما نصت وزارة الأوقاف في العقد المبرم أنه لا دخل لها بمصروفات الهدم أو إخلاء المباني التي تطلبت تسكين 13 أسرة تواجدت في المكان قبل إعماره.

حتى سنة انتهاء التعاقد ما بين "فدا" و"الأوقاف" لم يتلق الطرف الأول إنذار بوجود مديونية متراكمة يلزم سدادها للوزارة، تتمثل في دفع جنيهًا حق انتفاع لكل متر شهرياً.

تفاجأ منير بأمر المديونية حينما ذهب للأوقاف من أجل تجديد عقد الانتفاع "قالوا لي مش هينفع نجدد غير لما نسدد المديونية اللي علينا من سنة 2009 لغاية دلوقت وده حوالي نص مليون جنيه". يتعجب مدير المكان، إذ يسدد شهريًا للأوقاف إيجار منزل أمام "الربع" ويأتي المحصل لسنوات دون إخباره شيئاً حسب قوله.

كان ذلك عام 2015 حين عاد منير باحثًا عن سبل تواصل، لكن حركة التنقلات داخل الهيئة أحالت بين إيجاد حل، يقول "كان كل رئيس هيئة نقابله نشرح الموضوع من أول وجديد". ظل الوضع معلقًا حتى الأسبوع الماضي، حينما تم إخطار أهل "الربع" أن عليهم السداد أو الإخلاء.

5

لم ينكر سيد محروس، رئيس هيئة الأوقاف لقائه بالقائمين على الجمعية قائلاً لمصراوي "مفيش أزمة قلنا للناس تدفع الفلوس فقالوا أدونا مهلة لغاية ما نفك وديعة في البنك". يقول منير أن لدى الجمعية أموال دعم منذ 2013 ينفقون من فوائدها بعد انخفاض تمويل الجمعيات الأهلية وتوقفه بالتزامن مع القانون الجديد عام 2016، وأما إمكانية تلقى تلك الأموال كاملة ففي تاريخ 28 فبراير 2019، وهو ما وجده رئيس هيئة الأوقاف فترة انتظار طويلة.

"أحنا عندنا مدة تصالح لحوالي شهر وده اللي قلت لهم. أحنا معندناش مانع في التفاوض وإيدينا لهم مهلة" يضيف محروس، بينما يوضح أن فرع الأوقاف لمنطقة القاهرة هو المخول له ارسال الإنذارات بالمديونية قائلاً "أكيد في اخطارات بس مش تحت إيدي دلوقت. أكيد المنطقة بتبعت الكلام ده هي الجهة المختصة بالتحصيل".

على مدخل باب "وكالة الخروب" الواقعة في 24 شارع التمبشكية، امتداد حارة السنانين، يقف ممدوح مستقبلاً الزائرين والمترددين على مبنى "الربع" الرئيس، حيث تتواجد الحضانة والعيادة والمكتبة والأنشطة التي تمس الحياة اليومية لسكان الجمالية. لا يتوقف دمع الرجل الخمسيني منذ العلم باحتمالية الإخلاء.

6

أول مرة عرفت خطى ممدوح طريقها إلى شارع المعز، قبل خمس سنوات، حين زار صديق له يعمل بالمكان. يسكن الرجل حي المعادي ومنذ صباه عمل ممدوح "مبلط" واستمر بعد حصوله على الدبلوم الصناعي، لكن برؤيته المركز الثقافي انجذب للأعمال اليدوية. تلاءم ذلك مع حبه للرسم فضلاً عن رغبته في عمل يناسب عمره.

لم يتردد ممدوح لحظة حينما أعلمه صديقه باحتياج "الربع" لموظف أمن، ترك كل شيء "كنت تعبان لكن فرحت وتاني يوم من الساعة 8 الصبح روحت". من وقتها دبت الطاقة في نفس صاحب الواحد والخمسين ربيعًا حتى أصبح يُعمل يداه في كل ما يخدم المكان. يقول إن مشاعر المحبة بين العاملين تدفع لذلك.

ذات يوم حضر بعض طلاب الفنون الجميلة لتجديد الحضانة بالرسومات، أخبر ممدوح مديرة الروضة بإمكانيته للرسم، ونجح في الاختبار؛ يشير إلى رسم صغير على الحائط كان أول أعماله، بينما تتبع عيناه الشخصيات الكارتونية التي ملأت جدران "الربع" ويستقبلها الأطفال يوميًا.

7

لم يندم ممدوح يومًا على تضحيته بمهنته السابقة رغم مكسبها الوفير إذا ما قورن بمرتبه الحالي. يتذكر شهادة التقدير التي حصل عليها قبل شهر تكريمًا على مساعدته في دفع الناس لمحو أميتها، يشرد الرجل بينما يفكر كيف يدبر أمره إن وقع الإخلاء.

كذلك لا تعرف سهير زعفان ماذا تفعل. 14 عامًا قضتها السيدة بين أرجاء المكان منذ افتتاحه. رأته يكبر كالأطفال الذين ضمتهم الروضة والأنشطة المختلفة "كانت الناس مستغربة الأول المكان واحدة واحدة لغاية ما بقاش في مكان تقعد فيه في الندوات والحفلات"، حتى مع تأسيس الحضانة عام 2012 وتوليها إدارتها لمست التغيير "كان العدد اللي بيجي قليل دلوقت بقى في حوالي 150 طفل في أيام الدراسة".

في الثامنة صباح كل يوم، تحضر سهير الطابور المقام في ساحة "الربع"، يرتدي الأطفال زيهم ويقضون يومهم، فيما يستمر عمل الأساتذة حتى الرابعة عصرًا بعد مواعيد الروضة، للتدريس للأطفال من غير مرتادي الروضة، وتعليمهم الأنشطة.

8

تعكف هالة شعبان على تعليم مجموعة من الصغار صحيح التهجئة، تتابعهم في رفق، كما تفعل منذ ثمان سنوات، ترى في هذا ردا لجميل حسن تأسيس ابنتها وولدها على يد معلمين "الربع".

لكل عامل داخل "الربع" ارتباطه الخاص به، تحفظ سهير "عِشرة" السنين، وما لاقته خلالها من تقدير واحتمال في أوقات وفاة صغيرها الصعبة، وتتذكر بسنت محمد رغم عدم حداثة وجودها كمعلمة في المكان، أنه فتح أبوابه لشقيقها المحامي لإلقاء محاضرة قانونية لأهالي الجمالية.

فيما تبتسم عينا محب إسحاق، مدرب "كمبيوتر" وهو يستعيد لحظات نجاح أطفال بعمر 10 أعوام في تطبيق ما تعلموه وتقديم عرض عبر الحاسب الآلي، وتمكن أولياء أمور من محو أميتهم التكنولوجية.

طيلة 15 عامًا ظل "الربع" ملاذا للكثير، يسكن إليه العاملون بعد تخبط الظروف، فلا ينسى محب كيف التحق بالمكان عام 2011 في أعقاب ثورة 25 يناير، كما يأنس فيه الصغار بالأنشطة والمعسكرات الخارجية، حتى أصبحت صورهم على الجدران والأبواب أمرًا اعتيادياً.

9

ينتظر أهل "الربع" ما تسفر عنه الأيام القادمة، يحاولون التأقلم مع أسوأ الاحتمالات؛ تلملم عينا سهير صور ذكرياتها مع "الربع" من هاتفها المحمول، فيما يتردد عمر أكرم، طالب كلية العلوم لليوم الثاني على التوالي، لاقتناء أكبر قدر من المكتبة التي اعتاد التردد عليها على مدار أكثر من عام، لعله يدرك خططه المؤجلة لشراء ما يريد من الكتب قبل فوات الأوان.

10

فيديو قد يعجبك: