طابور إلى المقابر.. تلاميذ يشيعون جنازة "معلمهم" يوميًا
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
كتب- محمود عبدالرحمن:
كان صباح يوم الاثنين، الموافق 15 أكتوبر الماضي غيرَ كل صباح؛ فلم يتم الأستاذ ناصر كتابة الحكمة الصباحية المعتادة على السبورة السوداء، في الحصة الأولى؛ وبين حروف الكلمة الأخيرة سقط لافظًا أنفاسه الأخيرة، بين تلاميذه داخل معهد "طنط الجزيرة" الأزهري، مركز طوخ، محافظة القليوبية..!
هرول التلاميذ نحو المدرسين بالفصول المجاورة، "الحقوا أستاذ ناصر رشدي تعبان"، اتجه يوسف منصور، الإداري بالمعهد، نحو فصل مدرس الرياضيات، ليجده مفترشًا الأرض، يحاول تلاميذه احتضانه وإيقاظه، يحملونه على الفور نحو الوحدة الصحية المجاورة للمعهد، لم تكتمل دقيقة واحدة حتى أخبرهم الطبيب: "البقاء لله". أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية، ومات.
إلى جوار بوابة المعهد، من الداخل، كان سامح محمد، مدرس اللغة الإنجليزية، يجلس وحيدًا على أحد المقاعد الذي اعتاد أن يشاركه فيه الفقيد، بين فواصل الحصص الدراسية، ينظر إلى اللافتات التي تحمل صورة، المطعمة بأبيات الشعر، وكلمات الرثاء، يسند ظهره إلى الخلف، ويتذكر: "كان دايما حريص على الحضور قبل الطابور المدرسي، وكان حريص إنه يمشي آخر واحد"، يسترجع فرحته بحصول المعهد الأزهري على شهادة الجودة، وكيف كان متحمسًا لتلك المسؤولية، ومصرًا على النجاح، يتنهد المدرس قبل أن يستأنف بجزع: "كان راجل ونعم الأخلاق كان العمود الفقري بتاع المعهد وخلاص العمود الفقري راح".
يذكر محمود عادل بكري، إخصائي تغذية بالمعهد: "أنا كنت تلميذ الأستاذ ناصر من سنة أولى ابتدائي كان أب وأخ لحد ما ربنا كرمني واشتغلت في المعهد معاه، وعرفته أكتر بجد كان إنسان وأخلاق".
يسترجع محمود عندما كان تلميذًا، وكان الأستاذ ناصر يقوم بتصوير الأوراق المهمة في مادة الرياضيات، لشرحها لهم: "كان بيقول أي حد محتاج حاجة يعرفني، عمره ما طلب مننا فلوس بالعكس كان بيتكفل بتلاميذ كتير ويساعدهم"، واقترح على أهالي القرية أن يتم تحويل اسم المعهد من معهد طنط الجزيرة إلى اسم معهد ناصر رشدي الابتدائي الأزهري؛ رداً للجميل.
بعد انتهاء كل يوم دراسي، يخرج تلاميذ المعهد من الفصول بصحبة أحد المدرسين، يحملون لافتات ورقية تحمل اسم مدرسهم، ويتجهون نحو المقابر التي تحضن جثمان الأستاذ ناصر، والتي تبعد عن المعهد حوالي 300 متر، وبعد الانتهاء من الزيارة يتجه كل تلميذ الي منزله.. عادة جديدة اكتسبوها منذ يوم رحيله، بلهجة حماسية تملؤها البراءة، يقول محمد، أحد تلاميذ المعهد، في الصف الخامس الابتدائي: "كلنا كنا بنحبه كان بيخاف علينا وعمره ما ضربنا"، يلتقط أنفاسه، ويردف: "يوم الوفاة رُحنا المقابر صفين صف بنات وصف أولاد، وقرينا سورة الفاتحة وسورة الملك وطلبنا من ربنا أن يدخله الجنة عشان بنحبه".
كانت جنازة الأستاذ ناصر شعبية مهيبة، اصطف المعلمون والتلاميذ والعائلة والأصدقاء لتوديع جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير بمقابر القرية، بحسب شقيقه الذي قال: "عاش مخلصًا لعمله وفيًا للطلاب يقدم لهم دائما النصائح قبل الدرس، ومات وهو يقوم بواجبه بالتدريس للطلاب والتلاميذ".
لم يكن الحاج مظهر بالقرية لحظة وفاة شقيقه الأصغر، ناصر، ولكنه تلقى خبر الوفاة هاتفيًا من أحد الأقارب "والله بعد ما سمعت الخبر حسيت بإحساس عمري في يوم ما حسيته، إحساس الكسرة والوحدة".. يتذكر الرجل الستيني عندما سلمه ناصر قبل وفاته بأيام وصيته وأوراق ممتلكاته، ليعلق في رقبته مسؤولية كبيرة: "قلت له هتسبني لوحدي في الهم ده وانت بتكبر دماغك".
بصوت حزين، وعيون امتلأت بالدموع تروي سمر، ابنة الفقيد، كيف تلقت خبر وفاة والدها: "أنا كنت في المدرسة، وفجأة لقيت حد من قرايبي بيستأذن من المدرسة علشان أروح البيت لأن بابا تعبان شوية، لم تقتنع الفتاة بما قاله ابن عمها، "كنت حاسة إن فيه حاجة أكبر من كده لدرجة إن الدموع كانت نازلة لوحدها قبل ما اعرف حاجة".. صدمة قاسية ضربت قلب الفتاة حينما اقتربت من المنزل، الذي تجمع حوله جميع أفراد القرية: "نزلت من العربية مكنتش عارفة فيه إيه، والناس كلها بتبص عليا" وحينما دخلت المنزل، وجدت جميع أقاربها يرتدون ملابس الحداد: "فجأة من غير ما أسال أغمي عليا".
على بعد أمتار، وقفت سمر، ابنة الفقيد الصغرى، تستمع إلى حديث شقيقتها في صمت، تغطي الدموع عينيها، تقاوم صمتها وتتلفظ: "أنا عمري ما هصدق إن بابا مات، هو على طول معايا"، قبل أسبوع من وفاته، وجه إليها آخر طلباته، هكذا تتذكر: "أنا عاوزك يا سارة تحفظي القرآن، علشان في الحفلة بتاعة المعهد أكرّمك مع تلاميذ القرية".
فيديو قد يعجبك: