"له في كل بيت رسمة".. حكاية شعبان النوبي مع الفن والطبخ
كتبت-رنا الجميعي:
بشغف مُستمر لازال شعبان دمرداش يرسم كالأطفال، في طرقات قريته غرب سهيل يسير حاملًا دفتر صغير داخل جيب جلبابه، يرافقه أينما ذهب، كُلما راوده خاطر أمسك بالدفتر والقلم، ليُمسك بالفكرة، مُحولًا إياها لرسمة، ستة وستين عامًا هو عُمر الشيف شعبان، ولم يفقد بعد حُبّه للفن، أيًا كان شكله.
تعرف قريته شُهرته، إذا مررت بأحد البيوت هُناك مُستفسرًا عمّن رسم تلك اللوحات المُقيمة على جدرانها، ستكون الإجابة على الأغلب "دا اللي رسمها الشيف شعبان"، تحمل الجُدران رسومات عديدة بأيدي شعبان، يُمسك بعادات التراث القديم موثقًا إياه على الجدران، كالقابض على الأثر.
الرسم كان منحة وهبها الله لشعبان، في صغره كان يلعب بطمي النيل يُشكّله بأشكال بدائية، لا يعي سواها الصغير "يعني أعني أعمل بطة أو بيت"، ينهره والده قائلًا "يا ولد قوم ذاكر ومتعملش أصنام". شعبان ليس الوحيد الذي كانت خِصلته الفن، أعطى الله شقيقه محبّة الموسيقى "كان بيلعب بالعود"، منذ ذلك الحين تحرّك هوى الفن بداخل دمرداش إلى الآن.
كان الرسم على البيوت أمر مُعتاد عند أهالي غرب سهيل القابعة بأسوان، في المُناسبات يطلب الكِبار من أطفال العائلة الإمساك بالأقلام، وتلوين جُدران بيت العرسان الجدد "اللي يعرف واللي ميعرفش كان بيرسم"، بالنسبة لهم كان ذلك طبيعيًا، أما شعبان فكان الأمر يتعدّى ذلك عنده، هي فطرة مزروعة بداخله، يفرح بها كثيرًا.
وُلد شعبان عام 1952، شهد بعينيه بناء السد العالي "وقتها كنت في خامسة ابتدائي"، كانت البيئة المحيطة هي منبع أفكاره منذ طفولته، حينما تنبّه الصغير لعملية البناء رسم شخص نوبي ممسكًا بحجر وواقفًا فوق السد العالي، شارك شعبان في عملية البناء أيضًا.
كان السرّ عند شعبان في يديه، التي لم تُحب الرسم فقط؛ بل الطبخ والخط العربي أيضًا، تلك الأيدي كانت على صلة روحية بالفن في أشكاله المتعددة، علّمه والده الخط العربي الذي نفعه حينما قرر العمل خارج مصر، لم يُكمل شعبان تعليمه فكان سبيله هو السفر بعمر الـ23 عام، ليعمل كخطاط، لكن القدر خبّأ له مهنة أخرى.
في السفارة المصرية بسويسرا عمل شعبان كطبّاخ، التقى أحدهم علّمه ذلك المجال، لا يكتفي القادم من غرب سهيل بالتعلّم السريع فقط "لازم أقرا في كل حاجة"، لذا قرأ أيضًا كتب كثيرة عن الطبخ "ولقيت إنها فن بردو"، عرف شعبان الأكلات الشعبية التي تتميز بها البُلدان، أصبح ماهرًا في مزج كل مزاق ليصنع شيئًا مختلفة "بحب أحط نبذة من كل دولة في أكلة واحدة".
لأعوام ظلّ شعبان طباخ داخل السفارة المصرية، حتى رآه أمير سعودي أُعجب بأكله، وطلب أن يكون الطباخ الخاص له، فما كان من شعبان إلا أن يوافق، لتُكتب له تجربة جديدة داخل السعودية حتى مقدم الألفية الثالثة، يلتقط شعبان أنفاسه مؤكدًا على الرحلة الطويلة "فضلت مع الأمير لحد ما توفى"، لم يُغادره حب الرسم خلال تلك الفترة، ظلّ النوبي 32 سنة في الغربة، وفي عام 2007 عاد قافلًا إلى بيته الثاني في منطقة العقاد بمدينة أسوان.
لم يترك شعبان الرسم ولا الطبخ حتى الآن، تشهد على ذلك بيوت غرب سهيل وفنادقها، يُهادي الناس بالرسم على الجدران، كما رسم على حوائط فندقي "ايكادوللي" و"أنا كاتو" المعروفان هناك، كما أن قائمة الأكل الخاصة به موجودة بفندق "ايكادوللي" الذي يعمل فيه كطباخ رئيسي برفقة ابنه محمد، يؤمن شعبان أن لكل شخص نَفس خاص به في الأكل، حتى لو كانت الوجبة هي دجاج كنتاكي "أنا بعمل كنتاكي بس بالطعم بتاعي"، يضع فيه الحسّ النوبي كما يقول، "ولو طبخت لسياح ألمان مثلًا بعملهم أكلة شعبية من عندهم بس لازم أحط برضو الطعم بتاعنا".
حينما عاد شعبان من الخارج أقام ورشة خاصة به للرسم داخل منزله، في الصيف تحديدًا يعود النوبيّ إلى الرسم "الشتا ببقى مشغول عشان الشغل في الفندق"، حينها يقوم شعبان بالعمل داخل ورشته، يسترجع عادات قديمة نسيها الزمن، يُوثقها بفرشاة التلوين "أرسم واحدة لابسة جلابية نوبي من بتوع زمان، أو الناس وهي قاعدة برة بيوتها في الصيف، دلوقت بقوا يدخلوا جوة البيوت فيه تكييفات".
حتى الآن مازال يحمل الشيف شعبان دفتره الصغير بجيب جلبابه، يلتقط الأفكار ويخطّها سريعًا على الورق، داخل مركز غرب سهيل تتعلّق أولى لوحاته حين كان صغيرًا "كنت راسم مراكب، ولما كنا بنستحمى أيام الفيضان"، يتذّكر تلك اللوحة التي اشترك من خلالها بإحدى المسابقات، حاصلًا على المركز الأول، لكن أقرب لوحاته لقلبه كانت عبارة عن "صحرا وشمس وجوة الرملة فيه فخّار مكسور، وواحد ماشي من بعيد هدومه متقطعة"، رغم كآبة اللوحة التي رسمها بألوان البني الغامق والأسود إلا أنها تحمل أملًا "هي بتتكلم عن كنوز أجدادنا، واللي هنرجع لها تاني ان شاء الله".
فيديو قد يعجبك: