لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بيوتهم بلا عيد.. أقباط العريش يبحثون عن "السلام" و"المسرّة"

07:35 م الأحد 07 يناير 2018

أقباط العريش

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- شروق غنيم وفايزة أحمد ودعاء الفولي:

ذلك العام بدأ مختلفاً؛ ترافقه غُصة في قلوب أقباط العريش؛ أولئك الذي تركوا من منازلهم في فبراير الماضي، خرجوا دون مقتنياتهم، باتت بيوتهم خاوية من الألفة، وحلت مكانها البرودة. بين المحافظات المختلفة تفرّقت مئات الأسر. وبينما يبسط عيد الميلاد فرحته على قلوب المسيحيين، تواجه هذه العائلات الغُربة وحدها، حتى الصلاة داخل الكنائس أصبحت ثقيلة على الأنفس. في كل شبر يرون أيامهم الآمنة في شمال سيناء، قبل أن تقذفهم أيدي المسلحين بعيداً عن وطنهم.

الفرار من العريش كان مصير الأسر القبطية، بعدما تصاعدت عمليات القتل على يد مُسلحين تابعين لما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقتل سبعة مسيحيين في فبراير الماضي بحوادث متفرقة استهدفتهم في شمال سيناء.

بين الإسماعيلية، القاهرة، الجيزة، بورسعيد وعدة محافظات أخرى توزعت الأسر؛ أكثرها في محافظة الإسماعيلية التي وفرت لهم شققا في مساكن المستقبل، فيما تواجه عشرات الأسر مصيرًا غامضًا بسبب عدم الحصول على عمل أو عدم معرفة موعد عودتها إلى مدينتها مرة أخرى.

حنين جارف سيطر على رامي جرجس، قبل التوجه للكنيسة لأداء الصلوات صباح اليوم الأحد، بمحافظة بورسعيد. لم يهون الأمر سوى اتصال هاتفي من أحمد، صديقه وجاره بشمال سيناء، الذي حاول تخفيف وطأة الحمل الثقيل الجاثم على صدره منذ تلقيه تهديدًا بقتل أبنائه بواسطة الجماعات المسلحة هناك، ما أجبر رامي على لملمة ما اُتيح له اصطحابه في رحلته لمسقط رأس والده في "بورفؤاد".

"قالي هترجع امتى بقى.. دا العريش أهدى مكان في العالم.. أنا مستنيك.. إوعاك تتأخر"، يسترجع رامي ضاحكًا المكالمة الطريفة "أنا متابع الوضع في العريش، وعارف ان كل يوم الدنيا بتتدهور عن الأول.. بس هنعمل إيه لازم نضحك".

حين انتهى رامي من المكالمة، توجه للكنيسة، ملتقيا بعض معارفه، تبادلوا التهنئة، لكنه كان حاضرًا بجسده فقط "مهما كنت بين أهل والدي بس أصدقاء عمري وبيتي ومدرستي ذكرياتي كلها في العريش".

30 عامًا كانت مدة وجود رامي في شمال سيناء؛ هُناك ولد وكوّن صُحبته، وذهب إلى المدرسة التي تعلم فيها وعلّم فيها طلابه مادة الدراسات الاجتماعية، هؤلاء الذين لازالوا يحرصون على تهنئته بالعيد المجيد "مكالمتهم بتخفف عني كتير، وبتحسسني إن العريش مبعدتش عني أوي".

لم يرد المعلم الثلاثيني الانتقاص من فرحة زوجته وأولاده بالعيد، حاول إسعادهم، أكثر ما يتذكره أبناؤه خروجهم رفقة أصدقائهم إلى البحر "الدنيا هناك كانت أمان ونقاء مش لاقينه في أي مكان تاني".

الخروج إلى البحر لم يكن عادة أبناء رامي فقط، بل شكري مكرم أيضا، الذي اعتاد اللعب هناك مع أحفاده، ومشاكسة زوجته؛ تلك الذكريات هي السبب الرئيسي في قراره اليوم "مخرجتش من البيت ورفضت أروح الكنيسة".

كغيره من أهالي شمال سيناء نزح شكري رفقة واحد من أبنائه إلى محافظة الجيزة، بينما تفرق أولاده الثلاثة على باقي المحافظات، لذا لم يتسنَ لهم المجيء لزيارته "مفيش غير الولد اللي قاعد في الإسماعيلية اللي زارني.. نص ساعة ومشي علشان ولاده ومراته لوحدهم".

في منزله يجلس شكري شارداً في الماضي، تقطع عليه زوجته حبل ذكرياته الذي يأبى الانتهاء، تعاتبه لرفضه الذهاب إلى الكنيسة اليوم "أروح وسط ناس معرفهمش أعمل إيه.. خليني في بيتي غربة بغربة مش فارقة".

ذلك القرار هو بالضبط ما تبنّاه ميخائيل سمير. لم يقوَ المواطن الستيني على ارتداء ملابس الخروج، مكث في شقته الصغيرة التي أجرها بالقاهرة "عيد؟.. عيدنا لما نرجع بيتنا في العريش"، لا ينفك يرددها لنفسه.

كان سمير من آخر الأشخاص الذين خرجوا من العريش، يتذكر بأسى "القداس جوه الكنيسة.. ثم السلام على أهلنا وبعدين نخرج نتفسح"، لم يكن الوضع يختلف سنوياً، ففي العريش "مفيش أماكن كتير نروحها"، لكن السند الذي افتقده جعل طعم الأشياء "علقم".

صلاة في الكنيسة؟، يبدو الأمر مستحيلًا أيضا لأبانوب، صاحب الثلاثين عاماً، "لا قادرين نروح الكنيسة ولا روحنا ليلة راس السنة". يحكي أبانوب عن ابنته مارينا ذات الأربع سنوات "من ساعة ما صحيت الصبح وهي بتقول لي عايزين نروح العريش".

في تلك الأيام من العام الماضي اصطحب أبانوب أسرته للكنيسة، في السادسة مساءً انتهى الاحتفال "عشان الحظر وظروف العريش مبنقدرش نقعد لاتناشر بليل"، لكن البهجة صبيحة 7 يناير بقيت حية على استحياء "كنا بنودي الأولاد ملاهي أو جنينة وبيبقى فيه لبس جديد".. ترك أبانوب كل شيء في المنزل كما هو "جينا بهدومنا"، كان يمتلك منزلاً خاصاً به "وادينا قاعدين في شقة يا دوب مكفيانا".

ذلك العيد لم يأتِ والشاب ووالده بعيدين عن وطنهما الصغير فقط؛ تعاني أسرتهما من أزمات طاحنة؛ بين وقف بطاقة التموين الخاصة بأبانوب "قالوا لي هنحولها من العريش للقاهرة وبقالي خمس شهور مش عارف أصرف لا عيش ولا تموين"، ومشاكل في العمل، إذ لم يستطع الشاب الحصول على وظيفة ثابتة إلى الآن، أما الأب فيزعجه عدم اهتمام المحافظة بالأسر في القاهرة "ياما روحنا المحافظة وخدنا وعود بتعويضات ولا حاجة حصلت".

يتقاسم الأب والابن اللوعة، يتذكران كيف كانت العريش دافئة، كحال علاقتهما بجيرانهما. يستطرد الأب "انهاردة إمام المسجد اللي جنب بيتنا في العريش اتصل بيا.. هنّاني وفضلنا نتكلم عن الحال والوضع"، شعر الرجل الستيني كأن الرب يُربّت على كتفه "حسيت إننا متنسيناش وإن اللي احنا فيه زوبعة وهتروح لحالها، ويمكن العيد الجاي نرجع".

فيما يسترجع ميخائيل الأيام السعيدة من القاهرة، يفتقد بطرس إبراهيم "اللمة" التي دائما ما أغرقت منزله قبل الانتقال للإسماعيلية "كنا بنحس بهيصة العيد".

في المدينة السيناوية كانوا يذهبون إلى الكنيسة معا لحضور قداس عيد الميلاد، تجمعهم سفرة واحدة تُدلل على حال الأسرة الميسور "نحضر اللحم والبط والفراخ وكل اللي يحبه قلبك".

العيد في الإسماعيلية "مَطفي"، لم يعد له جلال في قلب صِغار بطرس "الشقة هنا ضيقة، منقدرش كلنا نتجمع زي زمان"، فيما انفّضت الموائد العامرة بالطعام "الحمد لله على كل حال، أهو أيام وبتعدي".

حاول بطرس التغلب على الحزن المسيطر على أسرته الصغيرة "خدت العيلين وروحت فسحتهم هنا بس برضو ولا دي بلدنا ولا نعرفها حلو، هناك كنا وسط ناسنا والباب مكنش بيبطل من تخبيط الناس عشان تعيد علينا".

العيد في العريش كان موسم رزق لبطرس، امتلك محل بقالة وخياطة "كنا بنفصّل هدوم العيد للناس وللعيال"، لكن باتت تلك الأبواب مؤصدة بعدما رحلوا عن المكان منذ قرابة العام.

لا يملك بطرس وظيفة الآن، غير أنه ينشغل بمحاولة إسعاد أولاده "بس برضو المكان الواسع أحلى من الضيقة اللي إحنا فيها"، فيما يضيف "صعبان عليا شقايا اللي عملته في العريش".

للإسماعيلية كذلك نزحت أسرة سامح منصور. قبل عام 2017، ظلت القاهرة ملاذها في أعياد الميلاد المجيد "كنا بنقضيه عند إخوتي ونقعد أسبوع ونرجع تاني، ودلوقتي مفيش". فقدت زوجته والدها وشقيقها، بعدما قتلهما مسلحو التنظيم أمام أعين والدتها المذعورة.

"مراتي بتشوف أبوها وأخوها في كل حاجة.. بتفتكر إزاي كانوا حنينين.. بتقول إن العيد من غيرهم ميسواش". أما منصور، فيحاول رسم الابتسامة على وجهه، كلما سألته ابنته مارلي ذات السبع سنوات عن العيد "هي طفلة متعرفش الظروف.. عايزة تخرج وتتفسح وتلبس.. واحنا ظروفنا اختلفت ومبقناش قادرين نعمل ده.. بس أدينا بنحاول منسرقش منها الفرحة زي ما حصلنا".

 

فيديو قد يعجبك: