بالصور- مقاهي بلا مباراة.. كيف مرت 90 دقيقة على تجار "المياه الساخنة"؟
كتبت- دعاء الفولي:
٢٠ دقيقة كانت الوقت المتبقي قبل بدء مباراة نهائي كأس الأمم الإفريقية بين مصر والكاميرون. حينها لملم حسن سيد بعض أكواب الشاي الفارغة، حمل أرجيلة انتهى منها صاحبها، جمع المقاعد المتراصة ووضعها داخل المخزن سريعا، فيما استعدت والدته لإغلاق المقهى الذي يمتلكانه بمنطقة الملك الصالح في مصر القديمة، ليذهب سيد لمشاهدة الحدث الكروي في مكان آخر، بعدما تأكد "إن مش هيبقى فيه زباين عشان معندناش قناة ولا شاشة تجيب الماتش".
اهتمام سيد بالكرة طفيف. لا يتابع إلا المباريات الهامة "ممكن أهلي وزمالك بس"، لكن منذ بدأ مشروع المقهى في الأشهر الأخيرة، حتى وجد زبائن تسأله بشكل مستمر عن شاشة يتابعون فيها كرة القدم، واعدين إياه برزق غزير.
المقهى الذي يعول به سيد والدته، لا تتعدى مساحته متر x متر، غير أنه يستطيع فرش مقاعد بطول الرصيف، وهو ما سيفعله عندما يحضر الشاشة "وكمان لما ييجي الصيف هنجيب زباين أكتر"، متمنيا أن يكون حظه التجاري أفضل في المباريات القادمة.
دقت الساعة التاسعة بالتمام. جلس الأخوان محمد ويسري دسوقي في مقهى آخر يطل على نفق الملك الصالح. بابتسامة خفيفة استأذن الأخ الأكبر يسري في الذهاب لمقهى قريب ليتابع المباراة، بينما قرر محمد إبقاء محل "أكل العيش" مفتوحا رغم شبه انعدام للزبائن، طالبا من شقيقه إعلامه إذا أحرز المنتخب هدفا، ليرد الآخر "هتلاقي الشارع كله بيترجّ يا محمد".
شخصان فقط جلسا خارج المقهى العتيق، الذي يقول عنه يسري "بقاله أكتر من ٦٠ سنة.. اتولدنا لقينا أبونا هنا". بداخل المكان ثمة تلفزيون صغير، أذاع لقطات من تدريب المنتخب، وأسفله عدة مقاعد مترامية، انتظر عليها أحد زبائن الأخوين، سائلا إياهما بعشم "مش هتجيبوا شاشة بقى عشان نيجي نتفرج عندكوا"، ليرد الشقيق الأصغر "ادعيلنا ربنا يوسع علينا".
بحسبة بسيطة علم ولدا دسوقي أن تكلفة الشاشة وقناة بي ان سبورت التي عرضت المباريات حصريا، قد تتجاوز السبعة آلاف جنيها كبداية "منقدرش ندفع لأننا مش بنغلّي على الزباين عشان كلهم متربيين معانا وعارفينّا"، رغم ذلك فلم يستطع محمد مقاومة حبه للكرة، فهو يمتلك القناة في منزله، وطلب من زوجته تسجيل المباريات الهامة في كأس الأمم الإفريقية كي يراها بعدما يعود من المقهى.
في المباراة قبل الأخيرة بين مصر وبوركينافاسو ذاق الأخوان طعم الفوز للمرة الأولى من سنوات "الشوارع هنا فضلت صاحية للصبح.. كنت حاسس كأن بنتي في الكوشة بتتجوز" قالها يسري متذكرا تلك الليلة، بينما وصف محمد اللحظة بأنها الأسعد بعد وفاة والدته منذ عدة أشهر.
عقب منتصف الشوط الأول ترك محمد المقهى لدقائق، بعدما طلب منه رجل المرور بالمنطقة كوبا من الشاي، وفيما كان الرجل الأربعيني عائدا لمحل العمل سمع تهليلا؛ سرت الرعشة في جسده، هرع لمقهى آخر على بُعد خطوات، شاهد الهدف الذي أعطى به اللاعب محمد النني قبلة الحياة للمباراة.
لم تدم فرحة محمد طويلا، إذ أحرز الخصم هدفا. حاول الأب التشاغل بالعمل في المقهى الخالي؛ أعاد تنظيف الطاولات، ملأ زجاجات المياه، خرج للشارع، ثم نظر للسماء قائلا بصوت مرتفع "يارب والنبي فرّحنا وخلّينا ننسى الهم شوية".
ليس هناك مصدر رزق آخر للأخوين دسوقي. يلتزم الاثنان بفتح المقهى في السابعة صباحا وإغلاقها بعد الثانية عشر صباحا "عمرنا كبر بس خدنا على شقا الشارع". لا يترك محمد عمله لأجل شيء حتى ولو كانت الكرة، بينما يأخذ يسري المباريات الدولية على محمل الجد، فلا يستطيع التركيز في سواها.
لا صوت يعلو فوق صمت الطرقات المحيطة بالمقهى. انكمش الأخ الأصغر في أحد المقاعد، متابعا الدقائق الأخيرة في المباراة عبر هاتف صديق جاءه ليؤنس وحدته.. دون مقدمات أحرز منتخب الكاميرون هدفا ثانيا، كظم صاحب المكان الأربعيني ضيقه، قال لصاحبه باستسلام "الماتش راح مننا".
حينما أعلنت صافرة الحكم فوز الخصم الإفريقي، مر يسري بأخيه مطأطأ الرأس، مخبرا إياه بعودته للمنزل، بينما لم يعد يستطع محمد الإبقاء على هدوءه، فتمتم بكلمات لائما مُدرب الفريق المصري "كوبر دماغه غريبة.. مبيهاجمش خالص"، متذكرا بحسرة أن المباراة أخذت منه بعض الزبائن، لكنها لم تعطه انتصارا كما فعلت منذ أيام.
فيديو قد يعجبك: