"جنى جهاد" 10 سنوات.. مراسلتكم من فلسطين المحتلة (حوار)
حوار- إشراق أحمد:
نافذة المنزل كانت معلمها الأول، منها أطلت على العالم البعيد عن حضن أمها، وعبرها تخلت عن رهبتها كطفلة وهي دون الخامسة، لم تكن بحاجة لحكايات الأهل عن محتل أو رسومات عن حرب؛ أبصرت المدرعات على بعد خطوات منها، ورأت موت أصدقاء لها، فقررت في السابعة من عمرها أن تفتح النافذة على مصراعيها، بعدما اعتادت الأيدي إغلاقها اتقاء لقنابل الغاز، أخذت تجوب طرقات فلسطين برفقة والدتها، خلعت عباءة الصغيرة التي تختبئ تحت طاولة الطعام. ومع سنواتها العشر بات وجه الفتاة مألوفا، وصوتها المندفع بلغة عربية لا تعبأ بالتلعثم حاضرا، أينما تواجدت تحرص على نقل ما يجري في موطنها، متخذة سبيل المراسلين الصحفيين في ختم رسائلهم "من قرية النبي صالح. جنى جهاد.. فلسطين المحتلة".
لا يتجاوز عمر "جنى" عشر سنوات، غير أنها تحرص على التواجد بالأحداث، التي تعج بها قريتها الواقعة وسط الضفة الغربية المحتلة. حتى أصبحت معروفة في فلسطين بـ"الصحفية الصغيرة"، بل يصفها البعض بأنها "أصغر صحفية في العالم".
عرفت أنامل ابنة رام الله طريقها إلى الكاميرا منذ نحو ثلاثة أعوام، حاولت أن تنقل ما تراه عيونها في وطنها الأسير، من سطوة الاحتلال، الضرب، القتل، ومقاومة الفلسطينيين، بل إنها تعتبر ما تقوم في حد ذاته مقاومة "عشان أوصل صوت أطفال فلسطين" كما قالت الصغيرة لمصراوي.
يقع منزل "جنى" في مستهل قرية النبي صالح، بل هو أول بيت بالمنطقة كما أوضحت نوال تميمي، والدة الفتاة الفلسطينية. من تلك القرية تخرج المسيرات أسبوعيًا طيلة سبع سنوات للتنديد بالاحتلال، وإثبات أن صوت الفلسطينيين حاضرًا. لا يمر يوم الجمعة إلا ومعه إطلاق الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع، اعتقالات ومضايقات على حواجز يصنعها الاحتلال، اقتحام مدرعات للقرية بين الحين والآخر، لتعيث بالبيوت دمارًا، من تهشم زجاج النوافذ وكسر الأبواب واقتلاع الزرع وغيرها من أفعال تبث الذعر في نفوس الكبار قبل الصغار.
من نافذة المنزل كانت تسترق "جنى" النظر "مكنتش محتاجة حد يحكي لها عن اللي بيصير" حسبما قالت الأم عما دفع ابنتها شيئا فشيئًا للمضي بهذا الطريق.
منذ السادسة من عمرها وتصحب "جنى" والدتها في مسيرات "النبي صالح". من أمها وعائلتها "آل التميمي" تشربت عروقها المقاومة، لكن مع بلوغها السابعة وبإحدى المسيرات، بينما تضرب القوات الإسرائيلية قنابل الغاز، أمسكت بهاتف والدتها وأخذت تصور المسيرة هذه المرة، وتعلق عما يحدث خاتمة التصوير بجملة المراسلين الصحفيين الشهيرة.
لم تخبر الصغيرة والدتها بما فعلت حين قررت التصوير أول مرة، فما كانت تفكر به حينها "أوصل رسالتي أن إحنا أطفال فلسطين عايشين تحت ظل الاحتلال. ليش كل يوم نشوف دم على الأرض.. ليش كل يوم حدا يستشهد ويعتقل".
اكتشفت الأم ما فعلته "جنى"، صدفة بعد شهر، بينما تتفقد هاتفها "كانت بتحكي كأنها مراسلة وتقول جنى من فلسطين المحتلة"، ومع نشر "نوال" فيديو ابنتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، توالت التعليقات المطالبة لها بتشجيعها لمواصلة التصوير "حتى لو من وراء شباك البيت".
انجذاب "جنى" لعمل الصحفيين لم يكن فقط دافعها لما تفعل، سبق ذلك موقف اهتز له كيان الصغيرة؛ اقتحمت المدرعات والسيارات الإسرائيلية القرية، هرولت الفتاة نحو النافذة كما تفعل، في الوقت الذي كان "مصطفى" قريب العائلة بأول الشارع، حينها وقفت سيارة "جيب" إسرائيلية وأطلقت الرصاص على الشاب العشريني–كما روت الأم- أبصرت "جنى" موت صديقها المقرب لها بمسافة نحو 20 متر. انصدمت الصغيرة، خرجت مندفعة نحو الجنود، تصيح بهم وهي تتساءل ببراءة "ليش قتلتوه؟"، لتلحقها والدتها بحيلة تحميها "وقتها مسكت تليفوني وعلمت أني بصور منشان يخافوا وما يضربوها ولا يضربوني" تحكي الأم عن ذلك اليوم 10 ديسمبر 2011، الذي أدركت فيه ابنتها لأول مرة أهمية الكاميرا.
مواقف متوالية مرت بها الفتاة، حال أطفال فلسطين، تزيد من عمرها أعوامًا، تدفعها رغم قسوتها لاتخاذ سبيل الآباء والأجداد، فحين كانت "جنى" في الرابعة من عمرها، اقتحمت قوات الاحتلال "النبي صالح"، وصوبوا قنابل الغاز المسيل للدموع نحو منزلهم، فاختنق كل مَن فيه، وما كان إلا أن اندفعوا للفرار إلى منزل الجيران، وبينما تحاول "نوال" وشقيقتها والجدة إنقاذ الصغار، ونقلهم إلى الطابق الثاني بالمنزل، أطلق الجنود ثلاثة قنابل أخرى، ولم يفلح إغلاق الباب في منع نفاذ الغاز إليهم، فصاحت الأمهات عبر النافذة طلبًا لإنقاذ الأطفال البالغ عددهم نحو 15 طفل كما تحكي والدة "جنى".
وما أن تشابك شباب القرية للطابق الثاني ونجدة العائلة المحتجزة حتى أخذت الأمهات تلقي إليهم الطفل تلو الأخر، فيما ظنت "جنى" خوفا أنهن يرمين الصغار من النافذة فقالت لأمها بينما تقبض على يديها "أمي أنا بحبك عشان الله ما ترميني" وكان هذا الموقف نقطة فاصلة في حياة الصغيرة وكل أبناء القرية كما قالت والدتها "بعد هذا الحدث ما ضل الأطفال في البيت صار يطلعوا على المسيرات أسبوعيًا".
بفستان منفوش، وجه صبوح، شعر بني فاتح لونه ينسدل على الكتف، أطلت "جنى" لأول مرة أمام الكاميرا، وهي دون السابعة أعوام، وأخذت تهتف بالإنجليزية "1..2..3..4 occupation no more -لا مزيد من الاحتلال- تلحقها بهتاف بالعربية "وحدة وحدة وطنية.. على القدس رايحين شهداء بالملايين" يندفع صوتها الضئيل بأقصى قوتها، يردد من حولها هتافها، فيما يبدو عليها الخجل بمجرد أن تنتهي.
عامان تحولت بهما "جنى" من فتاة تخشى الأصوات، تبكي لمجيء يوم الجمعة لما يحدث به، وتهرع للاختباء تحت الطاولة، مما اضطر والدتها لابعادها عن القرية في ذلك اليوم، إلى أخرى تمسك الكاميرا وتصور المسيرات، موجهة العدسة نحو جنود الاحتلال، مقتربة منهم، تسجل ردود فعلهم رغم ما بها من رهبة طبيعية "دايما بكون خايفة.. بخاف أخسر حدا من عيلتي. بخاف يطخوني أو يعتقلوا حدا من عيلتي أو يستشهد مثل خالي رشدي وصديقي مصطفى".
كاميرا، مياه، محارم معطرة وأحيانًا ماسك لمقاومة الغاز المسيل للدموع. ذلك عتاد "جنى" بالمسيرات، وإذا ما وقع حدث تهرع للمنزل لجلب الكاميرا، وإن كانت بالصدفة في قلبه، تهم قائلة لوالدتها "صوريني بدي أعمل تقرير".
90% مما صورته الصغيرة باستثناء المسيرات لم تذهب إليها بل حدث في محيطها كما قالت والدة "جنى"، التي تتولى كثيرا تصوير ابنتها بينما تنساب الكلمات منها دون تلقين، فتارة تتحدث عن إصابة طفل من قرية النبي صالح بطلقات الاحتلال، وفي جنازة أحد الشهداء توجه رسالة قائلة "لكل العالم إننا على درب الشهداء باقون.. أرواحنا ستقاوم لا شيء يمنعنا عن المقاومة حتى الموت". وتارة أخرى يصارع صوتها بين صيحات المتظاهرين المطالبة بحرية الصحفي محمد القيق.
ترى "جنى" أنها صارت مع الوقت تتقن الوقوف أمام الكاميرا وتثبيتها، والحديث على نحو أفضل على عكس المرة الأولى، لكن تظل تلك المرة قبل نحو 7 أشهر هي الأصعب في إعداد تقاريرها، حين توالى إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع فيما كانت تئن جدتها جراء فتحها للنافذة "كنت متحيرة أصور ولا أسكر –أقفل- الشباك".
دخلت "جنى" بلاط مهنة المتاعب مبكرا؛ فما تقوم به ليس مجرد عمل تصنعه طفلة، بل يحمل خطورة، تذكرها والدتها في رسائل التهديد التي بدأت قبل نحو عامين، حين نُشر للصغيرة مقطع مصور بالقدس بينما كانت برفقتها، ومُنعوا من دخول الأقصى، فقامت بالحديث إلى الجنود مخبرة إياهم "ليش ما ندخل.. روح أطلع من هون هاي أرضنا"، فإذا بالجندي يرد عليها أنه سيطلق النار عليها إن لم تبتعد، وجاءت التعليقات على هذا المقطع مهددة الصغيرة بالموت، واتهامها بأنها "إرهابية"، وغيرها من تعليقات قاسية الوقع على الأم، غير أن ما يقابلها من دعم وتشجيع على غرار "جنى قدرت توصل صوت أطفال فلسطين للعالم" يهون على "نوال"، التي كثيرا ما تتذكر محاولة إنقاذ ابنتها من الغاز المسيل للدموع وهي ابنة أربعة أعوام فتدرك أنه في فلسطين "حتى الأهل بلحظات ما فيهم يحموا أطفالهم".
تخطت "جنى" عالم الطفولة النقي، ومع ذلك تحرص والدتها على أن يبقى داخلها شيء من هذا العالم، فتدفعها للعب مع نظرائها، خاصة كرة القدم التي تهواها، تخبرها أن تهافت وسائل الإعلام المحلية والعالمية للحديث معها شيء جيد لكنه ليس حياتها، بل طموحها وما تصنعه هو الحياة.
5 أمنيات تضعها الصغيرة في حافظة أحلامها، تحددها بدقة لا تخلو من البراءة، أولها تحرير فلسطين، ثانيها "العالم يصير لونه زهري"، وأما ثالثها فرؤية لاعب كرة القدم المفضل لديها، نيمار، البرازيلي لاعب نادي برشلونة الإسباني، وكذلك تعلم كل لغات العالم، إلى جانب أن تصبح صحفية ضمن فريق عمل وكالة "CNN" أو "Fox news" لما تراه من حاجتهم لصحفيين يعبروا بشكل صادق عن الشأن الفلسطيني، راغبة بشكل عام في أن يدعم الإعلام العربي والعالمي القضية الفلسطينية "وما يكَذِبوا.. المفروض يحكوا الحقيقة ويوصلوا رسالة صح ويتذكروا أن الكاميرا هي سلاحهم" مشيرة لتلك الصورة التي رأتها لغزة في الحرب الأخيرة فيما عُلق عليها أنها لإسرائيل، فكم تحلم "جنى" أن تصبح صوت الفلسطينيين خاصة أطفالهم لتخبر العالم كله عن "الحرية اللي ما بنعرفها".
فيديو قد يعجبك: