لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مصراوي يحاور صاحب أسوأ حديقة بالعالم.. "إسرائيل قتلت ابتسامة غزة"

12:50 م الثلاثاء 06 سبتمبر 2016

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار-إشراق أحمد ومحمد مهدي:

بخطوات بطيئة لا تتسق مع عمره، اقترب الشاب العشريني "محمد عويضة" من منزله في غزة، غضب مكتوم يعلو ملامحه، حالة من التيه تتملكه، من دقائق كان قد أغلق حديقته بخان يونس، بعد نَقل حيوانات الحديقة إلى خارج البلاد، وسط اتهامات له من الأهالي بتخاذله وعدم تمسكه بها، وتصنيفه من قِبل صحيفة "الاندبندت البريطانية" بكون حديقته الأسوأ في العالم. في المنزل لم يتحدث لأحد، اندفع إلى غرفته، جلس إلى أرضيتها متعلقًا بصره بالنمر "لذيذ"-أحد حيوانات الحديقة- الذي تملأ صوره هاتفه، معبأ قلبه بالذكريات والحكايات. مصراوي تواصل مع "عويضة" صاحب أسوأ حديقة في العالم للوقوف على تفاصيل وصولها إلى هذا الوضع في 12 عاما.

في صباح يوم 24 أغسطس الفائت، استيقظ أهالي "خان يونس" بغزة، على هدير حركة عدد كبير من السيارات في طريقها إلى حديقة الجنوب، ومن خَلفهم يهرول أطفال المنطقة بدافع الفضول، لم تنقضِ ساعة حتى جاءهم الخَبر، منظمة نمساوية أرسلت أفرادها لتخدير عدد من حيوانات الحديقة الأشهر في المكان، من بينهم "لذيذ"، تمهيدًا لنَقلهم إلى الأردن وجنوب أفريقيا بعد أن ساءت حالتهم، لساعات كان "عويضة" يتحرك في أنحاء حديقته يتابع ما يجري "نقلوا 15 حيوان من أصل 220"، يكتم الرجل آلمه، لكن عيناه تفضحه، شَعر به من كانوا حوله، حتى الحيوانات "الحديقة بقيت صحرا، لما بشوفها بتألم، لكن هذا أمر الله".

____ 1

على بوابة الحديقة، جلس "عويضة" ليستريح، وعيناه ثابتتين على لوحة الاستقبال بالمكان، تعاوده ذكريات البداية وحلاوتها "والدي كان يحب الحيوانات، وكان بده مشروع يخدم أطفال غزة" طُرحت على الطاولة فِكرة إنشاء حديقة خاصة للحيوانات، تحوي بين جدرانها عدد كبير ومتنوع من الطيور والأسود والنمور والقردة "عندنا أرض وشجر كتير، موز وبلح وزيتون، قولنا لو حطينا حيوانات بين الأشجار ممكن تظبط"، تحمست العائلة إلى الأمر في 2004، وضعوا أساسها، وجرت أعمال التجهيز على مدار 3 سنوات، انشغلوا خلالها في شراء من يملأها بالضجيج المُحبب "جبنا النمر لذيذ من استراليا، وضبع، أسد، قرد، نسناس مصري، وواحد فلسيطني، بجع، غزال. لحدا ما وصلوا 62 حيوان" لتصبح الحديقة جاهزة لاستقبال الزوار.

باحتفال أسطوري، اُفتتحت حديقة الجنوب في أكتوبر 2007، وسط زحام من أهالي غزة، الذين وفدوا إليها بدافع الفضول ومشاهدة الحديقة الأكبر بالمنطقة -مساحتها 8000 متر- وحيوانات لم يقتربوا إليها مِن قَبل "احنا حصلنا على جميع الحيوانات من كل العالم عشان تبقى أفضل حديقة في غزة"، من اليوم الأول بدا أن المكان مختلف عن باقي حدائق القطاع "فيه 4 حدائق تانية، حكومية. كلا منها تابع لفصيل سياسي. سواء حماس أو كتائب القسام. احنا فقط الخاص وحديقة أخرى للطيور" كانت الحديقة متنفسا حقيقيا لأبناء المنطقة من الأجواء الصعبة التي يعيشون فيها، فصارت محطة يومية لمئات الزوار "أكثر من 500 زائر يوميًا. وفي موسم المدارس 11 باص في كل صباح، يوصلوا لـ 7 آلاف شخص".

____ 2

في البدء جرت الأمور بطريقة جيدة، الابتسامة تعلو ملامح "عويضة" وهو يستقبل يوميًا ضيوف الحديقة "الدخل كان ألفين دولار في اليوم. والناس تطالب بالمزيد: ياريت فيه فيل أو زرافة"، يتنقل الشاب العشريني وسط مملكته بفَخر، صار صديقا للحيوانات، خاصة النمر (لذيذ) "كنت أحب ألعب معاه دايمًا"، يتزايد الطلب على زيارة الحديقة، فيُدفع بأبناء العائلة للعمل فيها، مع الوقت ذاع صيتها أكثر، بلغت شهرتها المدى، كأن القدر ابتسم لأسرة "عويضة" ولأحلامهم "كان بيكفي سعادة الأطفال لما يجو ويشوفوا الحيوانات"، كان كل شيء جميلا وحقيقيا "حتى إن وزارة البيئة بالضفة الغربية أخبرتنا أننا رقم واحد على مستوى فلسطين"، قبل أن تنقلب الدنيا رأسًا على عقب فجأة.

توتر، هدوءٍ ثقيل، قلق في المنازل، وحركة خفيفة في الشوارع، كانت غزة في ديسمبر 2008 تحت وطأة الانتظار المُر، بعد انتهاء الهُدنة مع الكيان الصهيوني، وسماع -بوحي من الشعور العام- طبول الحَرب مع قوات الاحتلال، قبل أن تُظلم سماء القطاع في اليوم الـ 27، بقصف مُكثف من مدفعيات العدو، رَبكة في كل ناحية، رُعب يدق القلوب، الغاز هنا وهناك، والموت يملأ الطرقات، يبحث الجميع عن مكان آمن، غير أن "عويضة" كان يُفكر في شيء واحد؛ الحيوانات "واجهنا مشكلة في الوصول للحديقة والحيوانات بتخاف، والغاز هيضرهم بالتأكيد"، مرت أيام الحرب والخوف يتلاعب بالشاب العشريني، العجز يَكسره، والأمل هو قشة الغريق، تشبث بها حتى انتهاء القتال بعد 21 يوما "مات أسد وضبع وعدد من الطيور والنعامات" يذكرها بأسى.

____ 3

هزّت الحرَب غزة، لكن الاستمرار سِمة لا تغيب عن فلسطين، أُزيلت سريعًا آثار العدوان، وفُتحت حديقة الجنوب من جديد "عاودنا للعمل وقمنا بشراء أسد وضبع وغزلان، واستمرينا في البناء"، شُفيت الحيوانات المصابة، تعافت أسرة "عويضة" من خسائرها، جرت الأمور كما الماضي، عادت الزيارات تتدفق من جديد على الحديقة، ولم يتعطل العمَل لـ 4 سنوات، حتى اندلعت الحَرب من جديد على غزة بنوفمبر 2012 "كانت فترة ممتازة لحد ما اغتالو أحمد الجعبري (أحد قادة حماس)"، مشاهد الموت مرت مرة آخرى هنا، ولم يُسمع وسط ضجيج القتال صوت أنين الحيوانات، زئير الأسد من الألم، تلوي "لذيذ" من قسوة الغاز، فزع الطيور "خلصت الحَرب ومعها مات حيوانات مرة تانية، فعاودنا شراء أسد وتماسيح وغزلان وطيور" في محاولة لإنقاذ الوضع.

عاد الحصار يفتك بأهل غزة، قبل أن تقرر قوات الاحتلال أن تضغط على آلام الشعب الأعزل بحرب شعواء جديدة، بعد عامين فقط من وضع عدوان 2012 أوزاره. "كانت حرب طاحنة" كما يصف "عويضة"، هال لها الأبصار، ضرب الرعب والعجز بالنفوس، لزم الشاب العشريني بيته حال مَن استطاع من سكان القطاع المحاصر، ليس من باب الأمان فعل، لكنه المتاح في ظل جنون يعج خارج الجدران. نحو 5 كيلو مترات تفصل مدير الحديقة عن الحيوانات لكنه لم يستطع الذهاب للاطمئنان عليها طيلة الـ14 يوم الأولى للحرب من خضم 50 يوم ما ترك بها مكان إلا وكان له نصيب من قذائف المحتل، ومنها حديقة الجنوب؛ قرابة 85% من الحيوانات لقت حتفها بفعل القصف، أو رعبا "لما روحت لقيت 34 من 220 حيوان اللي فضلوا عايشين"، وساءت الأمور منذ ذلك الحين بلا رجعة، فما كان بمقدرة أصحاب الحديقة شراء حيوانات بديلة كما السابق.

____ 4

راحت كافة الإمكانيات التي بحوزة آل "عويضة" بعد عدوان 2014، ولم يعد حصار المحتل وحده يرهق أصحاب الحديقة "الحكومة حطت علينا مبلغ 96 ألف شيكل ضرايب عشان احنا قطاع خاص مع أن المشاريع الحكومية معفاة من الضريبة"، فصارت حديقة "الجنوب" بين شقي رحى إسرائيل والحكومة الفلسطينية بحسب تعبير "عويضة". غير أن إنقاذ ما يمكن صار الخيار الوحيد "كنت اشتغل 6ساعات في تكسير الحجارة بـ25 شيكل عشان نطعم الحيوانات"، إذ كانت تكلفة طعامهم تتراوح ما يعادل بين 800-900 جنيه مصري كل يوم، ورغم ما يشكله هذا من عبء ثقيل بوقت كان الجميع في أمس حاجة لكل "شيكل" يُدخر لتوفير الغذاء لأهل بيته، لكن رؤية الحيوانات وقد مسها الضر كان أشد وطأة على نفس صاحب الحديقة، لما يعتبره مسؤولية معلقة بأعناقهم.

جثث الحيوانات جاثية في مكانها، بعضها بلى جسده، وأخرى تكاد تلفظ الرمق الأخير، يبصر "عويضة" أصدقائه كما يصفهم وقد عجزت يداه عن انقاذها فيتألم، ويمر بين ما تبقى منها، يرمق تغير أحوالها حال النمر "لذيذ"، فيغوص بحزن عظيم حين يسترجع ذكرياته معه والتفاف الناس حوله، وتشجيعه لهم كي لا يهابونه، يستعيد كم كان يلاعبه قبل أن تبدله الحرب "أصابه الاكتئاب وصار متوحش جدا ومش طايق حدا"، فبات يكتفي الشاب بإطعامه منذ عامين. مثل تلك الأمور دارت برأس صاحب الحديقة، ظل يبحث عن حل يلفت الأنظار عله ينتشل الحيوانات مما هي فيه، فكان التحنيط وسيلة الشاب الأولى.

____ 5

فيما كان عمر "عويضة" لا يتجاوز عشرة أعوام، بين زملائه في مختبر المدرسة، القى عليهم المعلم درسا، يعلمهم فيه التحنيط، فأمسك الصغير عصفورا ميتا منفذا ما تعلم.. ليمر 16 عاما ويستعيد الشاب ذكرى ما فعل، حينما رأى حيوانات الحديقة، فأخذ يحنط ما مات منها، تاركا إياها للعرض كما لو كانت حية. أكثر من عشرة حيوانات حنطها "عويضة" بمساعدة شقيقه، ليقلب المشهد من سعادة وابتسامة ترتسم على وجه أطفال يشاهدون حيوان إلى رؤيته ميتا "كنت عايز اثبت إن اليهود ما تركوا شيء لا إنسان ولا حيوان إلا وقتلوه.. بدي الكل يعرف أن اللي أبوه أو أمه أو أخوه أو قريبه مات الابتسامة تبعه راحت".

ورغم حزن "عويضة" على ما آل بالحيوانات من تحنيط، غير أن وجودها بالحديقة كان يبث في نفسه الأمل "ربنا هو اللي بيخلق، وسبحان الله من نفس الروح بيسوي طبيعة لما اتحنطت". ظن الشاب العشريني بعد التفات وسائل الإعلام الفلسطينية لفعله وحديثه عن أوضاع الحديقة أن الأمور ستتغير، لكن أحدا لم يستجب، لذلك لجأ للمناشدة الصريحة للرئيس الفلسطيني وكل منظمة بإمكانها إنقاذ الحيوانات، وكان اليأس قد تسلل إلى نفسه لعدم بلوغه أي رد فعل، إلا أنه في 21 أغسطس تغيرت الأحداث؛ وفد مندوبون لمنظمة "فور باوس" النمساوية إلى غزة، ثم زاروا الحديقة ليتفقوا على التكفل بالحيوانات بنقلها إلى محميات وحدائق في الأردن وجنوب أفريقيا والأراضي المحتلة "التعاقد المفترض أن يكون لفترة معينة، لكن شافوا أن تكون طويلة المدى لأن الظروف السياسية غير مضمونة" يقول المدير العام للحديقة مؤكدا أنهم لم يتقاضوا أموالا جراء نقل الحيوانات، بل المنظمة هي مَن تكفلت بكافة الإجراءات وأمور النقل.

____ 6

في الرابع والعشرين من أغسطس المنصرف خلت حديقة "الجنوب"، إلا من حفيف شجر يكسر الصمت الذي بات زائرها الوحيد، بعد أن غادرتها الحيوانات إلى غير رجعة معلومة، وانصرف عنها الوافدون والعاملون بها، لم يغلق متنزه خان يونس أبوابه كما يقول "عويضة" لكن لم يعد هناك ما يدعو للذهاب إليه. خوى المكان وخوت نفوس أصحابه إلا من حزن يمسك بتلابيبهم، يزيده ما يسيئهم من حديث الناس. يلازم الأب -مالك الحديقة- المنزل لا ناقة له بعد انهيار مشروع حياته، فيما يحن الابن للحياة السابقة هدوء البال وراحته برفقة الحيوانات، يزداد يقين بما تعلمه منها "الحيوانات بتحترم الإنسان لكن الإنسان مبيحترمهاش"، تختلج مشاعره بين سعادة إنقاذ ما تبقى منها، وألم الفراق خاصة لصديقه "لذيذ". يتمنى لو استطاع أن تمنحه الأيام القادمة رؤية لهم والاطلاع على أحوالهم، بينما لا تخبو نفسه من عهد "هفضل أجيب حيوانات لو عمري ميت سنة".

 

فيديو قد يعجبك: