إعلان

أحمد زويل.. طفلُ سبعيني على أعتاب العلم (بروفايل)

11:37 ص الأربعاء 03 أغسطس 2016

العالم المصري الدكتور احمد زويل

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-دعاء الفولي:
حين وقف على منصة جامعة كالتك ليتلقى تكريما عقب 40 عاما من العمل بها، نادى أسماء بعض مساعديه، طلب منهم الوقوف، مُنذرا الحضور بألا يصفقوا إلا عندما يُخبرهم، قائلا بإصرار: "أنا من أرض الفراعنة ويجب أن تستمعوا لكلامي"، وحينما صار الوقوف مستعدين، انطلق يُصفق مع الموجودين بالقاعة. لم يكن حديثه عن العلم إلا كلمات تنساب عن الأمل، أحلامه ظلت مُحمّلة بـ"عناد" طفولي؛ أن مصر مازال بها متسع من فرصة لعلماء جدد، وأنه رغم زحف الشيب إلى رأسه لن يتخلى عن سعيه في جعل الكون أفضل، يتهادى في رحاب العلم كصغير لا يَكبُر أبدا، وإن بلغ عمره 70 عاما.

منذ كان العالم الراحل أحمد زويل في العاشرة من عمره، لم يفكر كثيرا بحسابات أهل الأرض، يُقدم على الأمر  دون انتظار نتائج مُبهرة، لذا حين أرسل خطابا عام 1956 للرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقول له فيه: "ربنا يوفقك ويوفق مصر"، ظن أنه لن يتلقى رد، إلا أن "عبد الناصر" خالف التوقع وأرسل خطابا يُشجعه فيه على العمل، لم يُكذب الطفل خبرا، فصار عقب 43 عاما أول عربي يحصد نوبل في مجال علمي.



 ما كان زويل يرى نفسه إلا تلميذ يتعلم.. ظل يحتفظ بقطعة من طفولة، لا يخجل من التعبير عنها جهارا أو مجازا، يذكر بكاءه وقت أن دخل كلية العلوم جامعة الأسكندرية للمرة الأولى، مهابة من الحرم وإجلالا له، اجتاحه الشغف فخاض تعليما جامعيا علميا في مصر رغم العواقب غير المضمونة. يدين له بالولاء كلما جاءت سيرته "أخدت أحسن تعليم في مصر"، لا يتبرأ منه، فيحذو حذو الطفل المنضوي تحت ذراع والده مهما كان الأب فقيرا.

لابد أن قلبه كان يراوده عن البقاء، فيما يدفعه العقل للذهاب، بينما يشاهد بكاء والدته الحار إذ تودعه بمطار القاهرة عام 1969حين سافر لأمريكا للمرة الأولى، فانضم لجامعة بنسلفانيا ثم جامعة "كالتك" بعد ذلك بسبع سنوات. روحه التواقة للعلم منعته من التراجع " كان كل ما يشغلني أن أحصل على العلم وأتبوأ مركزاً في دنياه"، إصرارٌ  صاحبه منذ الصغر حين كتب على باب حجرته "دكتور أحمد"، جعله يُنهي الماجستير في 8 أشهر، رغم أن المُدة العادية تتراوح من عامين إلى أربعة.

اليأس لم يعرف طريقا لقلب زويل المولود بمدينة دمنهور، لكن الخوف دب فيه حين عايش الأيام الأولى بالولايات المتحدة، فلم يكن يتقن اللغة الإنجليزية، وكان المكان الذي يقيم به سيء، وليس معه سوى 40 دولار، والأهم أنه رأى بعينه فيما بعد علماء حاصلين على نوبل يتجولون في "كالتك"، فأحس بضآلة وضعه، حتى أنه فكّر بالعودة، لكن "العناد" الطفولي جعله يستكمل ما بدأ.

جائزة نوبل ليست بداية طريق العلم ولا نهايته. فلم يكن يتوقع زويل أنه سيحصل عليها، وإنما جال بخاطره أن يتحدى الناظرين له بشكل متدني، تلح عليه القيم الطفولية مرة أخرى ولكن الحميد منها فقط؛ فيقول في كتابه "عصر العلم" الصادر  عام 2005 "كان هناك أحد طلاب الدكتوراه وكأنه من المعادين للعرب، حتى أنه كان كثيراً ما يخلط الأمور السياسية بالمسائل العلمية، وعلى الرغم من أنه كان يقدم لي بين الحين والآخر بعض العون في دراساتي المعملية، حتى أننا اشتركنا سويا في نشر أحد الأبحاث العلمية1971. أقول برغم كل ذلك فقد تولد لدي شعور داخلي بأن هذا الشخص لم يكن يتوقع لمصري مثلي أن يتفوق أبداً وكنت أقول في نفسي: سوف ترى في يوم من الأيام ماذا أنا فاعل.. وقد تحقق ذلك بالفعل".. تقابل زويل مع ذلك الشخص بعد أعوام، حين تسلم العالم المصري جائزة "بيتر ديباي" من جامعة بنسلفانيا، وكان الباحث الأجنبي جالسا في الصفوف الأولى لحظة تكريم ابن دمنهور.

كان زويل دائما يطرح سؤال "لماذا.. وكيف؟"، يحاول الوصول لماهية عمل الأشياء، مُنتظرا أن تُشفي الإجابات صدره. ربما كان ذلك سبيله لنوبل، التي حصل عليها في الكيمياء، بعد أن ابتكر نظاما للتصوير سريعا للغاية يعمل باستخدام الليزر، يرصد حركة الجزيئات عند نشوئها والتحامها، وكان سبب شهرة هذا الابتكار هو الوحدة الزمنية التي تُلتقَط فيها الصورة وهي الفيمتو ثانية وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية.

في يوم الثلاثاء 21 أكتوبر من عام 1999 كان العالم المصري يجلس مرتديا بزة رسمية، على شرف ملك السويد... خيط رفيع من ذكريات الصبا مر به حين نودي اسمه لتسلم جائزة نوبل، أعادته الموسيقى الاحتفائية لأرض الواقع، إذ نهض الملك لُيناوله أرفع وسام علمي على الإطلاق. كان الفخر يلف قلبه كصغير أنجز فرضا مدرسيا صعبا فأشاد به المُدرس، إلا أن زويل لم يفعل ذلك من أجل المُدرس، بل العلم.

انبهارٌ مَرِح أحاط بزويل في زيارته للسويد لتسلم الجائزة. فرحٌ اعتراه حين رأى احتفاء الدولة هناك بالعلماء "لا أعرف دولة أخرى تتم فيها الاحتفالات وتمجيد وتقدير الانجازات الابداعية كمثل الذي يحدث في السويد، ويقيم كل الحائزين على الجائزة في الفيزياء والكيمياء وعلم وظائف الأعضاء أو الطب والأدب والاقتصاد وعائلاتهم في الفندق التاريخي جراند هوتيل في ستوكهولم، ويرافق كل واحد من هؤلاء الفائزين سيارة ليموزين" روى العالم الراحل تفاصيل ذلك الأسبوع في كتاب "عصر العلم"، مُشبها الوضع بقصص الخيال أو "موكب من مواكب الحوريات الأسطورية".

كما يحتفظ الطفل بعاداته وممتلكاته، كان زويل. القراءة ظلت متعته الأولى، تكدست كتب التاريخ في مكتبته لتترك بنفسه استمتاعا كبيرا. هواياته بسيطة؛ يقرأ كتابا يُحبه في هدوء تام، والسيدة أم كلثوم تُغني في الخلفية، ذاك الصوت الذي لم يفارقه في سيارته، منزله، أو مكتبه بجامعة كالتك، حيث استقبل الباحثين الجدد أو الطُلاب، دون تعالي أو نفور، يوجه الشباب كأنما هو والدهم، ويصغي لهم كصديق، يؤمن أنهم نواة حلمه الأكبر بأن تُصبح مصر رائدة في التعليم والبحث العلمي، من أجلهم بدأ مشروع مدينة زويل كما قال، ومنهم تتخرج الدفعة الأولى-المكونة من 250 طالب- لجامعة زويل للعلوم والتكنولوجيا عام 2017، حيث لن يكون صاحب فكرة التجربة حاضرا، إلا أن أثره باق.

لم يشغل زويل عقله كثيرا بالأشياء المادية، لكنها أتت له طواعية؛ فحصل على 31 جائزة دولية، بالإضافة للتكريمات عدة مرات من قبل جامعات هامة على رأسها "هارفارد". كما وُضع اسمه بلائحة الشرف الأمريكية ضمن علماء مثل أينشتاين وجراهام بل. اتخذ العالم والأب لأربعة أبناء من المادة حديثا للسخرية، فقال إنه عقب التحاقه بجامعة "كالتك"، كان يمتلك سيارة صغيرة من نوعية "فولكس فاجن" لا تليق بمكانته وكانت مدعاة لإطلاق النكات، إلا أنه أحبّها رغم ذلك، واحترمت الجامعة تمسكه بها فخصصت مكان باسمه ليركنها فيه.

الطفل الكامن بالراحل زويل، ظل يحثه على حب العلم ونبش تفاصيله، كان يرى نفسه كطالب مازال ينهل ولا يكتفي، لا يُغمض عينيه عن اكتشاف أي شيء جديد، ففي حواره لبرنامج "ممكن" على فضائية سي بي سي منذ أربعة أشهر، قال إنه حين اُجريت له عملية في النخاع الشوكي، ظل يتسائل بلهفة عن تفاصيل التطور العلمي العظيم في مجال الخلايا الجذعية، منشغلا بسؤال من حوله عن ثورة الطب، ونسي –ولو مؤقتا- أنه مُصاب بالسرطان.

منذ ساعات فقط أخذ الموت العالم أحمد زويل إلى مثواه الأخير. هدأ خياله الذي لم يتوقف عن تخطيط المزيد من أحلام. ظن أن لديه مُتسع من وقت ليرى العلم حاكما لمصر، كان يؤمن بحدوث ذلك يوما ما، قائلا: "إنها بلد مليئة بالأمل ولدينا الأجواء المناسبة للتعليم والثقافة"، ردد ذلك في محافله الدولية، زرعه في نفس الحاضرين مرارا، أصر عليه كما يُصر الصغار على تنفيذ رغباتهم، حتى وإن بدا ذلك مستحيلا للمحيطين.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان