"ديستوفيسكى".. رجلٌ انتصر على الحياة بسِن القلم (1-3)
كتبت-علياء رفعت:
لطالما آمن أن النور ينبعث من أسود الثقوب، وأن النفس البشرية تحمل في خلجاتها الكثير من الخير برغم مزاولة البعض -أحيانًا- للشرور في أبهى صورها، هو الذي قطع على نفسه عهدًا غير منطوق بالغوص في أعماق البشر لاستخراج لؤلؤها المكنون. في عالمه الخاص لا مجال للمثاليات، أو الأحكام المطلقة. الخطيئة ليست كما تُقِرها العادات أو التقاليد، الثواب لا يحظى به إلا من تحمل السير في الظُلمات حتى آخر النفق، الكُل آثِم، العقاب فرضُ عين، والخلاص بالتطهر هو السبيل الوحيد للاستمرار.
بفلسفته الخاصة تلك عاش الحياة، فنسج بقلمه عوالم مختلفة، أدان بعض أبطالها، وأشفق على البعض الآخر فمنحهم صَك الحرية والغفران بعد اكتمال الرحلة، إنه "فيودور دوستويفسكي"، أحد من أعظم الكُتاب الروس، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق. مُنح العديد من الألقاب خلال رحلته الأدبية الثرية فعُرِف بالموهبة المريضة، عَبقري الإحساس، خادع الموت، وغيرها. كُلها ألقاب حاول بها البعض توصيفه وتشريح أدبه الذي اتسم بِكونه "السهل الممتنع"، فكتاباته التي لم تحتو قط على العُقدة كانت تخترق خبايا النفوس والمجتمعات لتضعها تحت المجهر ومن ثم تترك الحُكم للقارئ.
"الإنسان ابن بيئته ومُحصِلة لما عايشه" ربما ينطبق ذلك الوصف تمامًا على "ديستوفيسكي" الذي عبرت كتاباته عنه بين سطور مُختلف الروايات التي قام بتأليفها على كثرتها، فكل رواية منها حملت جُزءا من روحه، لمحة من ماضية، ووثقت ما عايشه، وتفاصيل أخرى يسردها مصراوي عبر ثلاث حلقات عن أحد عملاقة الأدب الروسي والعالمي.
نشأته وصِباه
في ثمانينيات القرن قبل الماضي، وبالتحديد في الحادي عشر من نوفمبر عام 1821 ولد "ديستوفيسكي" بأحد أحياء موسكو، فهو الابن الثاني لأسرة متوسطة الحال يعمل رَبها كطبيب. كان الأب يتسم بالتجبر والقسوة في معاملة الجميع حتى أبناءه، أما الأم فلم ينعم الأطفال برعايتها وطيبتها الخالصة كثيرًا فوافتها المَنيّة قبل أن يكمل بطل حلقاتنا عامه السادس عشر، ليرث عنها الصبي تلك النزعة الإيمانية التي كانت تتسم بها، ويهرب من جبروت والده بالانغماس في القراءة التي أصبحت ملاذه الوحيد بعد فقد والدته.
تلك السنوات العِجاف التي قضاها ديستوفيسكي بعد وفاة والدته شكلت صِباه ووجدانه، حبه للقراءة وملازمته للكتب فتح له نوافذ مختلفة على عالم أرحب من قسوة والده، فأحب العديد من الكُتاب الذين اعتبرهم مثله الأعلى في ذلك الوقت مثل؛ نيكولاي جوجول، إرنست هوفمان، وأونوريه دو بلزاك.
مسارات جديدة وتحولات:
ولأن الرياح دائمًا تأتي بما لا تشتهي السفن، قرر والد ديستوفيسكي عنه وجوب التحاقه بكلية الهندسة الحربية بسانت بطرسبرج رغم عِلمه برغبة ابنه في أن يصير كاتبًا، رضخ الشاب لرغبة والده والتحق بالفعل بكلية الهندسة حيث انهى فترة الدراسة ولكنه ترك مجال الهندسة بعد مقتل أبيه في ظروف غامضة أثناء غيابه، ليطوي بعدها صفحة سوداء من حياته مليئة بتحكمات الأب الذي لم يوّرثه سوى مرض "الصرع" منذ أن كان في التاسعة من عُمره.
بدأ ديستوفيسكي العمل في مجال الأدب عام 1844، وكانت أول أعماله عبارة عن ترجمة لرواية بلزاك “Eugenie Grandet”- أو "أوجيني جراندي" - نُشِرت تلك الترجمة في صحيفة سانت بطرسبرج آنذاك، وبعدها بعامين قام بتأليف أولى رواياته "الفقراء" وهو ابن الرابعة والعشرين ربيعًا، فأثارت الرواية ضجة غير مسبوقة في الوسط الأدبي، وتهافت القراء عليها، حتى إن أشهر نقاد الأدب وقتها "فيساريون بلنسكي" أثنى على أسلوبه وقدرته الهائلة على اختراق الطبقات الاجتماعية ورصدها بمنتهى الدقة، مُعلنًا بذلك ولادته الأدبية "الآن أصبح لدينا من يخلف جوجول"، في إشارة لديستوفيسكى الذى مُنِح بتلك المقولة بطاقة العبور إلى عالم الشهرة، لتتوالى بعدها إبداعاته التي أثرت الأدب الروسي فكان منها؛ "المساكين"، "قلب ضعيف"، و"شجرة عيد الميلاد والزواج".
ككاتب شاب مَهموم بمختلف قضايا مجتمعه الاجتماعية، السياسية، والثقافية؛ كان من الطبيعي أن ينضم ديستوفيسكي لإحدى الجماعات التي تقوم بمناقشة قضايا الحرية والسياسة غير أن المناخ السياسي في روسيا في ذلك الوقت لم يكن يتسم بالحرية إبان الثورات التي اجتاحت أوربا بين عامي 1848 و1849، فتم حظر كل تلك الجماعات وإصدار مرسوم يقضي باعتقال كل المنتمين لها.
القَشة التي قسمت ظهر البعير:
تم إلقاء القبض على ديستوفيسكي بصحبة رفاقه ممن ينتمون لجماعة "دائرة بتراشيفيسكي" ليصدر بعدها حكما بالإعدام ضدهم جميعًا بعد التحقيقات التي وُجِهت لهم فيها تهم التخريب والخيانة، اقتيدوا إلى السجن ومنه إلى محل تنفيذ حكم الإعدام، عُصبت أعينهم استعدادًا لرميهم بالرصاص. لحظات فاصلة مرت عليهم بينما شبح الموت يُلوّح لهم من الجانب الآخر قبل أن يُسلم إلى أيدى الضابط المسؤول عن تنفيذ الحكم ظرف يحوى مرسوم آخر يقضي بتخفيف عقوبة الإعدام إلى أربع سنوات بالسجن مع الأشغال الشاقة تُقضى بسجن "كاتورجا" في مقاطعة "أومسك" بسيبيريا.
تلك اللحظات الفاصلة التي ظن فيها ديستوفيسكي أنه قد فارق الحياة حقًا كانت نبراسًا له، مرجعًا، وملمح ملحوظ بكل الروايات التي كتبها فيما بعد، ليصفها قائلًا :
"هناك لحظات تدوم خمس ثوان أو ستاً تحس أثناءها فجأة بحضور الانسجام الأبدي، وبأنك بلغت هذا الانسجام. ليس ذلك شيئًا أرضيًا: لا أقول أنه سماوي، ولكنني أقول أن الإنسان من جانبه الأرضي عاجز عن احتماله. فيجب أن يتغير جسم الإنسان أو يموت. إنه شعور واضح، لا جدال فيه مُطلقًا. تدرك الطبيعة كاملة على فجأة، وتقول لنفسك: نعم، هذا هو، هذا حق. حين خلق الله العالم كان يقول في آخر كل يوم: نعم، هذا خير، هذا عدل، هذا حق. ليس ذلك نوعاً من ترقق العاطفة والحنان. إنه شيء آخر. إنه فَرح. وأنت عندئذ لا تغفر شيئاً، إذ لا يبقى ما تغفره. وليس ذلك حبا. آه، إنه فوق الحُب. الأمر الرهيب هو أنه واضح وضوحاً مخيفًا مُروعًا. غيرَ أن فرحًا واسعًا يغمر كل شيء ! لو دام أكثر من خمس ثوانٍ, لما استطاعت النفس أن تتحمله ولكان عليها أن تزول. في هذه الثواني الخمس أحيا حياةً بكاملها، وإني لمستعد في سبيلها أن أهب حياتي كلها، لأن هذه الثواني الخمس تساويها. من أجل أن يستطيع المرء احتمال ذلك عشر ثوان يجب أن يتغير جسمه. وأظن أنه يجب على الإنسان أن يَكف عن التناسل. لماذا الأطفال، لماذا نمو الإنسانية، إذا كانت الغاية قد بُلغت." - ديستويفسكي، على لسان ستافروجين فى رواية الشياطين.
فيديو قد يعجبك: