قبل المولد النبوي.. "يا حلويات مين يشتريكي؟"
كتب- محمد زكريا وشروق غنيم:
على حواف ميدان رمسيس المكتظ بزائريه، يقع شارع باب البحر، الشهير بتصنيع وبيع الحلويات. شارع ضيق، الهدوء يخيم على أرجائه القديمة، بعكس عادته بحلول المولد النبوي كل عام. على مدخله يجلس الحاج حسن، عارضًا بضاعته من الحلوى المتراكمة، في حركة خفيفة للبيع. على بعد أمتار قليلة يرتكز خالد أبو كريم يُشخص النظر لبضاعته الكرتونية المتراصة بشكل رأسي. وفي أحد أزقة الشارع الكائن بوسط القاهرة يتحرك الحاج عزوز بين عماله، يشرف على أعمال تصنيع الحلوى داخل مصنعه الخاص. فيما يجوب محسن عبد الفتاح طرقات الشارع الشعبي، حاملًا بيده اليمنى أكواب من الشاي، آملًا أن يتحصل على مبلغ يفيض عن حاجته الأساسية، من أجل إطعام أولاده علبة صغيرة من "حلاوة المولد".
يستمر محسن عبد الفتاح في التجول بأزقة "باب البحر"، بين بائعي الحلويات ومصنعيها، ينادي على بضاعته الساخنة "شاي"، يسأله أحدهم "هتجيب حلاوة المولد إمتى ياعم محسن"، يجيبه الرجل الخمسيني بشكل قاطع "والله العظيم ما بتدخل بيتي"، فيما تملؤه حسرة؛ تتزايد بإحساس عجزه عن تلبية متطلبات أسرته المكونة من زوجة وأربع أولاد "يقولولي نفسنا فيها، أقولهم منين؟"، فيما توحي عينيه بمزيد من الأسى.
ينادي "محسن" على كوبه الساخن، يجيبه الحاج عزوز صاحب مصنع الفنار للحلوى، يتداول الرجلين الأحاديث عن وقف الحال بالشارع التجاري. "عزوز" الذي امتهن مجال تصنيع وبيع الحلوى منذ الصغر؛ لم يلمس خفوتًا في نسبة الشراء طوال فترة عمله بأيام "المولد" كما هو الحال بالموسم الحالي.
عدة أزمات واجهت الرجل الستيني، أولها الارتفاع الكبير بسعر السكر، وهو المكون الرئيسي لصناعة الحلوى "زمان كان أرخص سلعة بنشتريها". إذ بلغ الطن العام الماضي 4 آلاف جنيهًا، لكنه وصل إلى 13 ألف جنيهًا هذا العام. فضلًا عن ارتفاع أسعار الخامات الأخرى، فما كان منه إلا أن "قللت من إنتاجي السنة دي".
عقبة أخرى وقفت بوجه الحاج عزوز. لأول مرة تُعِد "الحكومة" حملات تفتيشية بمصانع الحلوى لفحص السكر الموجود "مكهربين المحلات". ووفق روايته فإن الحملة الأمنية صادرت كميات كبيرة من السكر المتاح لدى المصانع الكائنة بالشارع التجاري، رغم امتلاك أصحابها فواتير تثبت صحة شراء أطنان منه. لكن "الفنار" نجا من تلك الحملة، بعد أن "خبيت السكر في مكان تاني"، قبل أن يضيف صاحب الـ66 عاما ساخرًا "ساعتها قولت اللي هيجي ناحية مصنعي هولع فيه".
بوسط شارع باب البحر، يجلس خالد أبو كريم أمام محله الصغير، على كرسي متهالك، يستند بظهره على علب كرتونية؛ صُممت خصيصًا لتغلفة الحلوى المصنعة، يدخن "الشيشة" ممسكًا بيمناه كوب شاي "خمسينة"، فيما يرمق الشارع الهادئ في غضب "السنة اللي فاتت كنا بنشتغل قبل المولد بـ120 يوم، النهاردة فاتح من 9 الصبح والساعة بقيت 12 ومفيش ولا زبون"، قبل أن ينظر صاحب الـ51 عامًا إلى بضاعته المتراكمة في دهشة.
منذ ما يزيد عن 45 عامًا، يعمل "أبو كريم" بتصنيع وبيع العلب الكرتونية "حضرت لما كانت البالة اللي هي 25 كيلو بـ180 قرش دلوقتي وصلت 65 جنيه". ارتفاع الأسعار الفترة الأخيرة أصابت تجارة الرجل الخمسيني بركود شديد "قبل العيد طن الكارتون كان بـ1800 جنيه دلوقتي بقى بـ2500 جنيه"، وهو ما أثر بالسلب على مصدر دخله الوحيد "زمان كنت اشتغل شهر المولد ده بمقام السنة، دلوقتي اللي بيحصل ده ميرضيش حد".
3 جنيهات هو ثمن علبة الحلوى الفارغة داخل محل "أبو كريم"، بعد أن وصل سعرها العام الماضي من نفس الشهر لـ120 قرشًا فقط. يرجع الرجل الخمسيني السبب في ارتفاع الأسعار إلى ضعف الرقابة على التجار، بعد تطبيق الحكومة الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، مما قلل من حركة البيع، الذي زاد من معاناة الأب لـ7 أبناء "إحنا كده بنموت بس بالبطئ".
يستكمل بائع الشاي التجول بمحيط "باب البحر"، ينادي عليه الحاج حسن؛ صاحب أحد المحلات، يُقدم "محسن" كوبه الداكن، يرد "حسن" بتحية ممتنة، قبل أن يحكي عن خيبة أمل تصاحب عمله مع انخفاض طلب الزبائن على حلوته الموسمية. على مدار السنوات الماضية، كان يومه يبدأ من الثامنة صباحًا "كان بيبقى في رجل في المكان"، غير أن حال اليوم اختلف كثيرًا، عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحًا، فيما يطغى الفراغ على الشارع المليء بـ"حلاوة المولد".
تأثر البائع بشكل كبير جراء ارتفاع الأسعار "الربح قل 70%"، نتيجة عزوف الناس عن الشراء مع بدايات الموسم. إذ ارتفعت علبة الحلوى "الشعبية" -التي تحوي 17 صنفًا مختلفًا- من 7 جنيهات بالعام الماضي إلى 20 جنيهًا هذا العام "حلويات المولد بقت رفاهية بالنسبة للغلابة". فيما يرجو الرجل الخمسيني أن يتحسن الحال قبيل انتهاء الموسم "ربنا يسترها".
بعد جولة سريعة داخل محال الحلويات الكبرى بوسط القاهرة. الأسعار تختلف تمامًا عنها في الشارع الشعبي. تبدأ العلبة الواحدة من سعر مائة جنيهات، وتصل في بعض المحال إلى ما يزيد عن ستمائة جنيهًا. وهو ما يستنكره الحاج حسن "المحلات الكبيرة بتجيب حلويات المولد من باب البحر، لكن بتغلفها بشياكة، وتحطها في علبتها، وتغلي السعر على حس إن ليها اسم".
يلتقط بائع الشاي أطراف الحديث من الحاج حسن. يتحدث عن معاناة معيشية يحياها بشكل يومي، إذ يتحصل صاحب الـ58 عامًا على ما لا يزيد عن 50 جنيهًا يوميًا "بدفع منهم إيجار 700 جنيه في الشهر، ومياه ونور 800 جنيه.. أجيب منين؟"، لذلك لا يملك الرجل المسن رفاهية الحصول على علبة حلوى صغيرة "أنا معايا كوم لحم، ده أنا بشيل اللقمة من بوئي عشان أئكلهم.. هجيب حلويات؟".
فيديو قد يعجبك: