قطار الصعيد المحترق.. مصراوي يروي قصة "15 ساعة فساد" لحكم مبارك
كتب- أحمد الليثي ومحمد مهدي:
في جلسة مهيبة، انتظر الجمع صدور الحكم بشأن ذويهم، أولئك الذين قضت نيران الإهمال على استقبالهم للعيد، فصاروا جثثا متفحمة، تلا القاضي حكمه على مهل وسط انتظار القصاص لـ 361 قتيلا -وفق رواية الدولة، ضجت القاعة بالصراخ والعويل حين جاء الحكم مخيبا للآمال بتبرأة 11 موظفا حكوميًا، فيما كانت له دلالته حين قال القاضي: "أرواح الضحايا تستصرخنا.. لكن بعد كل حادث يأتون بضعاف القوم إلى المحاكمة ويتركون الكبار"..
الوقت الذي غابت فيه الشهود، التقى مصراوي "أحمد إسعاف"، الشاهد الأهم، ذلك الذي قضى نحو 15 ساعة كاملة برفقة الموتى في رحلتهم الأخيرة، في كل خطوة عايش وجه من فساد النظام، وحمل ويلاته في قلبه، بعد 14 سنة كاملة يسرد الواقع المرير بأسى متمنيا أن يلقى الرئيس المخلوع جزاءه العادل، موقنا أن تلك الواقعة كافية للف حبل المشنقة حول رقبته وإدانة نظامه.
قبل ساعات قليلة من صلاة عيد الأضحى عام 2002، كان القطار 832 محملا بأجساد البهجة المتوقة للعيد، نحو صعيد مصر، ومع دقات الثانية صباحا، كانت النار قد التهمت 7 عربات دفعة واحدة، عند منطقة البرغوثي بالعياط، يندفع أحمد عبدالمنصف -إسعاف- تجاه المستشفى العام، سيارة إسعاف وحيدة قادمة من مكان الحادث، تُسلم جثتين قبل أن تهم بالمغادرة "سألته هما دول بس اللي راحوا في الحريق؟! قالي دول بس إيه؟ دا هناك ناس ياما".
مع كل حادث مروع يجري على حواف العياط، لا يأبه المواطنين بالحدث، فقط يولوا شطرهم نحو المقهى المقابل لوحدة إسعاف المكان، بحثا عن "أحمد إسعاف"، ذلك الذي وهب نفسه لكل إنسان يحتاج لسند حتى ولو لفظ أنفاسه، يقطع الأميال من أجل خبر لطفل صدمته سيارة، أو عجوز غرق بترعة، أو جثة امرأة حاروا في أمرها، فيكون هو بالمرصاد، لا يبغي سوى وجه الله "بشوف ابني مكان أي حد منهم.. وبقف مع الناس وربنا بيسندني من غير ما أدرى".
استقل أحمد عبد المنصف سيارة للحاق بالقطار قبل التحرك إلى منطقة الرقة، لسهولة وصول المسعفين إليها "الناس قالولي انت اللي قلبك جامد، وتقدر تتحمل شكل الجثث"، الطريق يعج بالبشر والسيارات، يتخيل "إسعاف" هيئة الضحايا، يتململ في مقعده لا يطيق الانتظار، يترجل من السيارة فجأة وسط دهشة المحيطين، يلهث بجسده الضخم للحاق بعربات القطار المحترقة، يراهم على مد البصر، يُسرع خطاه، يقترب، يُمسك بباب القطار مندفعا داخله "كنت مرعوب القطر يمشي قبل ما أوصله.. عشان عارف إن جثث الغلابة في اللحظة دي ملهاش حد غيري".
ظلام دامس، إلا بصيص صادر من أعمدة الإنارة المتهالكة على جنبات القضبان، دخان متصاعد بكثافة، روائح مختلطة تزكم الأنوف، أجساد متلاحمة بفعل اللهيب، كتل من اللحم المحترق "ريحة جزم وشنط، هدوم، شعر، خشب.. وريحة شياط لحمة بني آدمين"، مارس طقوسه المعتادة، قرأ المعوذتين، ثم بسمل وحوقل ثلاث، ألقى نظرة سريعة، وجد أب يحتضن صغيره، تشبثت سيدة بحقيبتها، شاب حاول القفز فتسمر قرب النافذة بعدما نالت منه النيران، حين وصل القطار للرقة كان "إسعاف" قد تفقد العربات السبع "المسئولين قالولك إن اللي ماتوا 370.. دي أكوام فوق بعض، القطر كان متروس بني آدمين".
مع بزوغ أول نور للسماء، بدأ إسعاف في عمله التطوعي، وقف المسؤولون على مسافة من القطار، فيما انهمك في حمل الجثث المحترقة بين يديه وجمعها على أبواب العربات، ينظر للضحايا الجالسين على مقاعدهم أو محشورين في الرف المخصص للحقائب بأسى، يحاول تخليص أجسادهم المتلاحمة "أطلع رجل، أشد أيد.. أجيب الناس اللي فوق ورجلي بتتزحلق من الأشلاء".
14 عاما مرت، فيما لا تزال التفاصيل عالقة بذهن عبد المنصف؛ ذلك الشاب القابع داخل حمام القطار ولم تسعفه سرعته للهرب على بعد خطوتين من باب القطار "بس قدره النار ثبتته مكانه.. اتصفى"، قص باب الحمام الموصود لإخراجه متفحما، الطفل المُلقى أرضا تحت الأقدام، ساوى الحريق بين الشاب اليافع والكهل والرضيع، الكل أمام النار سواسيه.
الشمس دنت من الرؤوس، آذان الظهيرة على الأعتاب، إلا أن أجواء الحدث المروع لم تختفِ "الخشب لسه بيطقطق، وشكل الجثث اتسخط من الولعة".. مشهد وحيد لا يفارق مخيلة أحمد؛ تلك المرأة التي احتضنت صغيرها بقوة، لم يفصل بينها وبين بنيها غير صليب ذهبي تدلى من رقبتها، وحين حاول الفصل بينهما اكتشف وفاة ثالث، جنين لم ير الحياة لكنه عاش الموت مرات، نزع عنها صغيرها، وألبسها وجنينها جوال "عشان محدش يشوف عورتها.. الست لازم تتستر".
لم يقترب منه أحد لساعات، ظلوا يراقبونه، صعد شاب مسعف ليجاوره، سلمه "جوانتي"، حاول مساعدته، غير أنه مر من باب إلى آخر وراح يفرغ ما في أحشائه "مستحملش، خفت عليه عشان ميأتذيش وبصراحة المنظر ميستحمولش حد.. قولتله انزل أنت وبدأت أرصلهم الجثث على الأبواب".
" متهيألي مصر اتقلعت وجات هنا" يقولها عبد المنصف مستعيدا المشهد باللفتة، بعد ساعات تكدس المسئولون ورجال الإعلام، مسعفون يتلقون منه الجثث، ومواطنون ينعون المأساة بمص الشفاه، الجمع يصطف على القضبان، فيما هو الحي الأوحد داخل قطار امتلأ بالموتى.. حمل رئيس الوزراء وقتها –عاطف عبيد- المسئولية للركاب، حين ألصق التهمة بإحدى السيدات التي أشعلت النار بموقد صغير فوصل الانفجار لباقي العربات.
يذكر تلك اللحظة التي حلقت فوقهم طائرة وسرت إشاعة في الأجواء أن الرئيس ترك العيد وحضر خصيصا لمتابعة أحوال رعاياه "ولا شفنا وشه يومها.. هي القواضي اللي مبارك بيتحاكم فيها دي حاجة، ده القطر لوحده يجيب له إعدام هو وولاده.. أنا لو شفته هعمل منه ساندوتشات.. ولا أقولك هركبه القطر مكان الناس".
في بَر مصر كان الجميع ينعم بطقوس عيد الأضحى، بينما يقف "إسعاف" وسط الأشلاء، 15 ساعة من الإنقاذ المتواصل، خرج بوجه شاحب، جلبابه ملطخ بالرماد، علق به قطع صغيرة من الأشلاء، خشب محترق، كأنه مسرح مصغر للأحداث، لم يحتمل "الجوانتي" كثيرًا سخونة الأجساد، اهترأ تاركا جراح في يديه، غير أنه أكمل مهمته دون تذمر، في الوقت الذي افترش المسؤولون -على بُعد أمتار منه- مائدة " كانوا جايبين جبنة وحلاوة وعاملين شاي، أول ما طليت عليهم جريوا وسابوا الأكل وكأن لبسهم عفريت".
قُرب المغيب، نحو 100 جوال امتلأوا عن أخرهم بالجثث، شعر وقتها "إسعاف" أن جسده المنهك يعيق استمراره، خرج من القطار وعيناه تقاوم النعاس بصعوبة، من حوله عدد من الأشخاص يدنون نحو الجثامين بحذر، أكلي الجيفة يتربصون لسرقة ما بقى من متعلقات الضحايا في غفلة من المتواجدين بمكان الحادث، يشغله- رغم الإرهاق- طريقة هؤلاء في اكتساب الغنائم خلال الكوارث "كنت قادر أنزل بكيلو دهب، بس حطيت ابني ادامي، هتزهزهلي يومين وبعدين هتقعدلي في أخرتي".
بهدوء انسحب "إسعاف" من المكان، وقف على قارعة الطريق محاولًا إيقاف السيارات المارة لتنقله إحداها إلى بلدته، الوقت يمر دون أن ينتشله أحد، قطع الصمت المطبق ضابط شرطة، اقترب منه بخطوات مسرعة وعلى ملامحه الغضب، زجره "قالي مش خلصت.. اتكل على الله" غصة وجدت مكانها في حلقه، إهانة لم يكن يتوقعها الشاب البطل "قولتله يا بيه الكلمة الحلوة هتريح الواحد"، لم يتراجع الضابط عن موقفه غير أن تدخل رجل شرطة آخر انهى الموقف سريعًا "مشيت، بس حسيت إني معملتش حاجة بسبب كلمة الظابط اللي زعقلي".
بعد أيام من الحادث، علم "إسعاف" أن المحافظة صرفت له مكافأة قيّمة على مجهوده التطوعي في نقل الضحايا، فرحة دبت في قلبه محت ذكرى إهانة الظابط، راح يتسلمها، ورقة ممهورة بإمضاء المحافظ ومائة جنيها مصريا فقط لا غير "قبضتهم 99 بس"، وظيفة مؤقتة كانت المنحة التالية له، كعامل إسعاف بمستشفى العياط، يحكي القصة بتهكم "كان القبض 44 جنيه.. ابني بياكل بيه عيش بتاو وشيبسي".
قابل "إسعاف" العمل المؤقت بالرفض، لكنه استمر به لشهر أو أقل، يروي الأسباب بطفولة بالغة "ساعة ما وظفوني في المستشفى جبت سخان، لميت فلوسه من الناس على مرتبي، عشان الرجل الميت يستحمى بشوية ميه دافيين، ويروح لربنا دافي ومزأطط وحلو وميه ميه ومفرفش".. فيما كانت مهمته التالية هي إصلاح أدراج ثلاجات الموتى المتهالكة بمستشفى العياط "صلحت اتناشر درج في تلاجات المشرحة، عملتلهم توصيلات، بدل ما كان الميت بيتمرجح فيها".
في ليلة عيد الأضحى من كل عام، لا يستعد "إسعاف" للعيد، بينما يجلس وحيدا في منزله، يقرأ الفاتحة ويستمع للقرآن داعيا الله أن يبعث نوره للضحايا، راجيا أن يُحسن خاتمته ويلحقه بهم في مكان أفضل.
في شوارع العياط، يسير "عبدالمنصف" متكئا على عصاه، يمر الرجل الأربعيني على عدد من الدكاكين التي يعمل على حراستها بعد منتصف الليل، يُتمم عليها، يحميها من العابرين المجهولين في المساء، لا يستريح إلا قليلا، غير أنه ينشغل من آن إلى آخر بإخراج صورة من داخل جلبابه تم التقاطها له أثناء نقل الضحايا في حادث القطار، فرحة طفولية تغمر وجهه، يتأملها بولع، يمسحها بيديه رغم نظافتها إمعانا في الاهتمام بها، يُردد بصوت واضح المدون عليها " لقد تطوع رجل مصري يدعى سيد عبدالمنصف، بنقل ضحايا القطار، أو ما تبقى منهم إلى المشرحة، بوحي من ضميره، حيث لم يستطع أحد الدخول بسبب بشاعة المنظر.. فشكرًا لهذا البطل".
تابع باقي موضوعات الملف:
مبارك.. جرائم لا تسقط بالتقادم (ملف خاص)
قصة كفاح طوسون.. يحكى أن نظام رمى شعبه ''ع الرصيف''
جمهوركية آل مبارك.. وثيقة تتبع التوريث في زمن ''موافقون''
فتحية.. حلمت بالأمومة فأهداها إهمال نظام مبارك ''الإيدز''
لأول مرة.. ناجون من عبارة سالم يروون تفاصيل ''القضية التي طرمخها النظام''
محمد سيف الدولة: مبارك حكم مصر بـ''كتالوج أمريكى'' لصالح إسرائيل (حوار)
فيديو قد يعجبك: