قراء الغيطاني.. حراس تربوا في معبد إبداعه
كتبت- رنا الجميعي ونسمة فرج:
القراءة لجمال الغيطاني ليست بالأمر السهل، فمن يُلقيه قدره أمام كتبه، عليه أن يفك طلاسمها أولًا، على الأغلب هو كتاب لغته فخيمة، لا تُريد من قارئها سوى أن يفتح قلبه وعقله لها، حتى تُكافئه بمفاتيح العبور إليها، يحتاج الأديب لصبر قراءه، هو القارئ لأمهات الكتب، وصاحب المشروع الأدبي، بصون أصوله العربية والمصرية، لذا حينما تقرأ للغيطاني فعليك بالصبر أولًا، ثُم تذوقه على مهل.
بدآ هُما الاثنين القراء لجمال الغيطاني في المرحلة الإعدادية، رغم صعوبة أسلوبه، إلا أنهما مع نضجهما وصلا لحبه، بل والوقوع في غرام مفرداته، التي لا يُنافسه أحد فيها.
"بدأ عندي حزن غامض غريب لم أعهده أنا الذي ظننت أني خبرت الأحزان كلها".. كلمات من الفقرة التي اقتبستها "دينا نبيل"، الطبيبة التي تُحبه، أول ما قرأت دينا للغيطاني كان "الزيني بركات"، لمحت الرواية التي تحكي تاريخ البصاصين خلال الحكم العثماني، بين أرفف المكتبة العامة المُشتركة بها، جذبتها وقررت قراءتها، وهي لا تزال في المرحلة الإعدادية "مش عارفة ليه كنت بقرا حاجات كبيرة كدا وأنا صغيرة، بس كنت مستمتعة".
"حزن هادئ ممض يدفع بدمعي إلى مشارف المآقي، لكنه لا يسكبه فيظل حبيسًا، حزن فاتر بين بين فلا يفنى ولا يزول".. تُكمل دينا الاقتباس، وتحكي عن مُغامرتها الأولى مع الغيطاني وهي لم تتجاوز مرحلة الطفولة، غير أنها دخلت بعدها في جفاء معه، أخذ منها سنينًا حتى وصلت للجامعة.
قالت له أمينة المكتبة "خده هيجرى له إيه أكتر من كدا".. هكذا بدأت علاقة "جابر طاحون" مع الغيطاني، بكتاب جودته سيئة، غير أن الحكاية تُغني عن ذلك "أول ما قريت كان رسالة في الصبابة والوجد"، رُغم أن جابر لم يفهم الكتاب في المرة الأولى لقراءته، غير أن الكتاب يظل له من الحميمية عنده، ليُصبح المفضل لديه من بين كتب الغيطاني.
بعدها بسنوات كان "الزيني بركات" هو القراءة الثانية لجابر، يذكر الشاب المقولة التي أعجبته من بين ما قرأ للكاتب "أنت تتكلم حتى لا تتكلم"، "كانت أول مرة أعي إن حد غيرك يكتبك، أو يكتب شعورك".
بسؤال جابر كانت إجاباته تتمحور حول الغيطاني بشكل نقدي، يقول عنه "بيميزه حضور المكان في أعماله"، حيث يمزج-برأيه- المكان مع أشياء ذاتية أخرى، فـ"التجليات" تنطلق من وفاة والده"، كما أن الحارة حضرت في "حارة الزعفراني".
لسنين طويلة كانت المكتبة العامة هي العمود الأساسي بقراءات دينا، لذا ومع وصولها للأعوام النهائية بكلية الطب لمحت مُجلد ضخم بغلاف أزرق، ورسومات الفنان حلمي التوني، لكن الخُوف من حجمه منعها لمرات الاقتراب منه "كل زيارة كنت أبص له بصة المشتاق".
قال الكاتب الشاب، محمد علام، إن الروائي جمال الغيطاني استطاع تأريخ الحارة المصرية بشكل أدبي، كان ذلك واضحًا في كتابة رواياته الشهيرة "وقائع حارة الزعفران، حكايات غريب والزيني بركات". يُضيف علام أن صاحب دفاتر التدوين كان مهمومًا بالحارة المصرية، يبدو ذلك في برنامجه "قاهرة نجيب محفوظ"، حيث قدّم في كل حلقة مكان جديد، مستعينًا ببعض أبطال رواياته في ضرب الأمثال، تخيّل الكاتب الشاب أن الغيطاني شخص صامت قليل الكلام يتكلم بعينيه، وعندما رآه في تأبين الروائي خيري شلبي وجده شخص حكاء لا يمكن أن يمّل أحد من حكاياته طوال حديثه.
لما وصلت دينا لعام التدريب العملي "الامتياز"، تكلل العام بقراءتها أخيرًا للتجليات، ذلك الكتاب الذي خافته كثيرًا، "فاجأتني اللغة وتركيبها، الجو العام المزيج بين السيرة الذاتية و الصوفية بهرني".
"بالتوازي مع قراءة التجليات ذي الثمانمائة صفحة، انتهت دينا من قراءة 12 كتاب آخر "قررت أبطئ سرعتي فيه خوفًا من إنه يخلص"، أكثر ما تُحبه الطبيبة لدى الغيطاني هو صدقه "حتى في أدق مشاعره و الحاجات المؤلمة اللي الكل بيغطيها"، لدى دينا على حسابها بالفيس بوك الكثير من المُتابعين، غير أنها لم تُقابل من قرأ للغيطاني كثيرًا، تُرشح مؤلفات له للسائلين "لحد دلوقت مشفتش حد قرأ له معظم شغله ونتكلم سوا، بس عندي أمل نبقى كتير و أولتراس".
"يبدأ عندي القلق الممض الموجع، قلق الابن البعيد المسافر الغائب، ينبئه الشعور الدفين أن أعز الناس عنده لحقه أذى، يود الاطمئنان، لكن ما من نبأ يقين، بينما تعصف به الهواجس و تغريه الظنون، غير أنه يتمنى لو ظل على جهله حتى لا يفجع بالنبأ العظيم "تُنهي دينا الاقتباسية الطويلة التي تُحبها للغيطاني، وهي من كتاب التجليات، تُرجح الشابة العشرينية أنه من الممُكن أن تمر المقولة على كثير، غير أنها تركت بها أثرًا.
فيديو قد يعجبك: