نساء عائلة "سلام" بالإسكندرية.. الثورة تمد لسابع جد
كتبت- إشراق أحمد ودعاء الفولي:
"العِرق يمد لسابع جد"، أخبرتها والدتها تلك الجملة هزلا يوما ما، لكنها كانت الحقيقة، شارك جِد إيمان سلام بثورة 1919، بذل كثير من أملاكه ليساعد المتظاهرين. رغم مشاركتها بثورة يناير، تعتقد "إيمان" أن الثورة ليست تظاهرات فقط، بل التغيير بشكل عام، أما الخالة آمال أيوب التي جاوز عمرها الخمسين عاما، فأصرت أن الثورة في الشارع، كل منهما تُكمل الأخرى، بينما تفهم "جودي" ذات السبع سنوات -ابنة الأولى- بعض مما يُقال أمامها، تحاول الأم تعليمها أن الثورة خط طويل متصل، يبدأ بمحاولة رفع الظلم، وينتهي بـ"تحرير المسجد الأقصى".
من مسجد القائد إبراهيم بدأت أول مظاهرة في الخامس والعشرين من يناير، لم تعتاد السيدة الثلاثينية السير لفترات طويلة، كسرت تلك الحواجز أثناء الثورة "مكنتش بحس بالوقت"، في الإسكندرية لم يكن الوضع مأساويا كما القاهرة، على الأقل في الثلاثة أيام الأولى، تغرق إيمان في الضحك قبل أن تذكر أنهم أثناء التواجد بجانب المسجد، وزعوا "لب أسمر" على ضباط من أمن الدولة والشرطة كانوا متواجدين، كنوع من السخرية من وجودهم.
تظهر طبيعة الخالة آمال وهى تصف نفسها "بكره الظلم"، معطياتها تغنيها عن المشاركة، من كونها سيدة بعمر الـ51، وموظفة بوزارة الصحة كهيئة حكومية، ومرض عينها، غير أن ذلك كان دافعها للنزول والالتحام مع الهاتفين باسم الحرية والعدالة الاجتماعية، خاصة السببين الأخيرين، فمن ذاق عرف.
يوم 28 يناير "جمعة الغضب"، تحمست السيدة الخمسينية للنزول، توجهت إلى ميدان القائد إبراهيم، مخبرة زوجها وابنها الوحيد أنها ذاهبة إلى ابنة شقيقتها "إيمان"، ورغم ما شعر به الزوج من ذهابها للمشاركة بالثورة، إلا أنه تركها، فرغم كونها موظفة "غير مسيسة" إلا أنها سبق وشاركت في التظاهرات التي كانت تخرج من أجل القدس، وتلك التي لم تتوقف بعد مقتل خالد سعيد "كنت فاكرة إنها هتبقى ثورة وقتها" تقول "آمال"، فاليأس الذي أصابها هو ما أخرها عن النزول ثلاثة أيام.
مصطلح الثورة لم يكن جديدا أيضا على إيمان-المدرس بكلية العلوم جامعة الإسكندرية- فعندما أرادت قرينة الرئيس الأسبق سوزان مبارك، الحصول على أرض مستشفى الشاطبي، لتحويلها إلى مشروع خاص، وإلغاء جميع الخدمات التي يقدمها المستشفى للمواطنين، دخلت هي وآخرين في صراعات مع الدولة بسبب تمسكهم ببقاء المشروع عاما، حتى إذا ما جاءت الثورة قفز إلى خيالها ذلك الموقف، فظنت أن نزولها سيغير الأمور لصالح "الغلابة".
ظلت "آمال" طوال 25 سنة، تعمل بوزارة الصحة مراجعة للحسابات، استماتت في رفض الاعتماد على الوسائل الإلكترونية، فتسبب هذا في إصابة عينيها بنزيف، مما تطلب تقليل جهد العمل، وهو ما سعت إليه راجية أن يشفع حرصها على العمل طيلة تلك السنوات، لكن النتيجة جاءت بإنهاء الخدمة، بعد التردد لشهور على ثلاث جهات جميعها أقرت في تقاريرها "عمل قليل في الشغل"، كان ذلك في 27/7/2007، لتقرر السيدة رفع دعوى قضائية ضد الوزارة، استطاعت أن تكسبها عام 2012، لم يكن ذلك للحاجة إلى المرتب الذي لم يتجاوز 500 جنية، لكن للظلم الذي لن يطولها وحدها بل كثير مثلها "قضيتي كانت رقم 15345 يعني قبلي وبعدي قد إيه".
عاشت آمال أصعب أيام الإسكندرية، يوم جمعة الغضب، عرفت للمرة الأولى الخرطوش، ظنت أنه رصاص حي "اللي كان بيقع كنت بفتكر أنه مات"، فكانت تشتعل غضبا، السير لساعات متواصلة لأكثر من 3 ساعات، الغاز المسيل للدموع، الذي لم تعبأ لضرره على عينها، وتسبب في إجرائها عملية جراحية بعد الثورة بسبب ترسب الغاز بها، لتجد العزاء في موقف الطبيب "أول لما كشف قال لي أنت كنت في الثورة.. ومرضاش ياخد مني فلوس".
معاني عرفتها الخالة "آمال" طيلة 18 يوم؛ حب البلد والإصرار في عيون المتظاهرين مختلفي الأعمار، الوافدين من كافة أرجاء الاسكندرية، والغدر الذي رأته بعد صلاة الجمعة يوم 28 يناير، فما لبث أن سلم المصلون، وسُمع هتاف "يسقط حسني مبارك" حتى رج المكان دوي القنابل والخرطوش، وكلمات قادة الأمن لأفراد الأمن المركزي مع حلول المغرب "روح على بيتك يا وله منك له يا ولاد..."، فبقى العساكر في مواجهة الثائرين، منهم من هرب بعد أن خلع زي الأمن، وآخرين تحجرت أرجلهم في المكان، فأخذوا في الهتاف ضد الداخلية مشاركة للمتظاهرين حسب رواية "آمال".
لم تشارك إيمان بتفاصيل جمعة الغضب كما فعلت الخالة، توقن أن العلم أبقى "لو علمت الناس مع الوقت هيثوروا لوحدهم"، لذا انطلقت فجر السبت 29 يناير إلى محافظة المنوفية "كان عندي امتحان في الدبلومة"، لم تحسب اعتبارا للطريق، ولم تعلم ما يدور خارج الإسكندرية حتى هذا الوقت، إلى أن قطع الطريق على الميكروباص الذي استقله بعض البلطجية "كانوا واقفين بالسيوف وهددونا"، سائق المركبة قرر الفرار دون إعطائهم شيء، حتى أن أحدهم مد السيف في اتجاه "إيمان"، ولولا عناية القدر لأصابها بجرح مميت، لكنها لم تفوت النزول ليلة التنحي إلى قصر رأس التين الرئاسي، كانت تلك المرة الوحيدة التي لم تصطحب جودي "كنا حاسين إننا مش هنرجع"، والتقت بخالتها، التي أصرت على النزول بمفردها، وتبريرها في ذلك "اللي كان بينزل عارف أنه ممكن ميرجعش.. محبش حد يتحمل مسؤوليتي".
"شبشب الثورة.. ذكريات ثورة 25 يناير" كلمات كتبتها الخالة الخمسينية على حقيبة بلاستيكية، تحوي ما ارتدته طيلة تلك الأيام، وتلك الشمسية البيضاء التي رفض صاحب المحل الحصول على ثمنها يوم جمعة الغضب، فبقيت ذكرى دون استعمال، ورغم شعور "آمال" بالغصة حين النظر إليها، تنفرط الكلمات من نفسها فتظل تكررها "كأنه حلم.. كل ده راح على الفاضي"، لكنها تصر على الاحتفاظ بها لأجل أحفادها الذين لم يأتوا بعد، ليخبرهم ابنها الوحيد أن جدتهم شاركت بالثورة.
أما جودي الصغيرة فتحفظ بعض الشعارات من أيام الميدان، كان عمرها 3 سنوات فقط، عكفت الأم على تحفيظها إياها في الأحداث الأخرى، كما حدث بشارع محمد محمود بنفس العام، اصطحبتها إيمان إلى المسيرات عقب جمعة الغضب، فبكت مع المرة الأولى للنزول، أخافها العدد الضخم للحشود، لكنها إن سئلت عن ذلك تقول بصرامة "لا مخفتش.. مش المفروض اخاف أصلا".
تابع باقي موضوعات الملف:
"فلان الفلاني".. الثورة بنت المجهولين "ملف خاص"
أحمد أمين.. واجه مبارك بـ''7 جنيه'' وصنع متحف الثورة بـ''مشمع''
مصطفى.. ''اللي كان يومها واحد من الحراس الشعبيين للمتحف''
سهام شوادة.. الثورة يعني ''عيش وملح''
عم فولي.. ابن المطرية يتعلم الثورة على الطريقة الإنجليزية- فيديو
''الششتاوي''.. الثورة تحت أقدام الأمهات
محمد عمران.. أن تختار بين الثورة و''بنتك''
مها عفت.. أول من حَمل "علم الثورة" في الميدان
يحكى أن ''عبدالله'' هتف.. وشبرا كلها ردت وراه
''فنانة'' و''بتاعة سندويتشات'' و''مسؤول شواحن''.. أبناء ''أسماء'' في الميدان
القصة وراء صورة "ماجد بولس".. ياما في موقعة الجمل حكايات
في بورسعيد.. من الأم إلى ابنتها ''الثورة أبقى وأهم''
''فاتن حافظ''.. الثورة ''من طأطأ لـسلامو عليكو''
قاسم المزاز.. ''دليفري'' المستشفى الميداني
حكاية جمال العطار مع الثورة.. باع "البيزنس" واشترى البلد
للتحرير تفاصيل يعرفها "محمود نصر"
محمود جمال يكتب.. من دفتر مذكرات فلان الفلاني "اللي كان يومها ثائر"
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: