لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حياة صغار غزة في ''معهد ناصر''.. هدنة يكسرها ''شبح'' الحرب

02:21 م الأربعاء 27 أغسطس 2014

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - ندى سامى وإشراق أحمد:

بحلول الظهيرة بدأ كل منهم يومه، تجري ''ميار'' بطرقة المستشفى، لا يوقفها بتر أصابع قدمها اليسرى، وتتناسى ''مروة'' مشهد الدماء بصحبة ''معتصم'' الممتعض من المكان، تجر كرسيه المتحرك، فيجد كل منهما في الآخر متنفس، فيما دونت ''رؤى'' أسماء شهداء ومصابين عائلتها، ولم تنس اسمها بينهم، أما ''شمس'' فأخذت تشارك خالتها تناول حبات اللب الأسمر، وبالجوار كسر ''محمود'' حصار رفض التعامل مع أحد بالحديث لرفيق ''غزاوي''، 6 صغار من غزة وفدوا إلى معهد ناصر للعلاج جراء إصابتهم في القصف الجائر على القطاع، اختلفت أيامهم بعد مرور قرابة نصف الشهر عن مجيئهم، التمس كل منهم ''هدنة'' لا يكسرها محتل، بل ''شبح'' الحرب الذي يطاردهم من حين لأخر بين ألم الإصابة والذكرى.

على باب الغرفة 405 وُضعت وردة حمراء على الباب، بدا حرص والد ''معتصم'' و''رؤى'' أن تكتمل أجواء ''هدنة'' أبناءه، على السرير الأول استلقت ''رؤى زياد''، قليلة الكلمات إلى أن ''يستفزها'' أحد إما بكلمات لا تفهمها فيعلو صوتها مبتسمة ''مش فاهمة إيش بتقول'' أو بالحديث عن شيء تحبه مثل شقيقتها الصغيرة ''جنى''.

ورقة بيضاء طلبتها من أبيها، جعلتها ''رؤى'' لوحة دونت بها أسماء أفراد عائلتها، ثمانية شهداء وأكثر من خمسة عشر مصاب لا تقوى ذاكرتها الصغيرة على تذكرهم جميعًا، احتفظت بها مع والدها، وما إن سُئلت عنها، نظرت إليها في تمعن ووضعتها جانبًا دون أن تنطق شيئًا سوى الابتسام ''لا تقول لجدتي''، فهي تحرص على ألا تراها حتى لا تعرف أن ثمانية من أبنائها نالوا الشهادة جراء قصف منزلهم القابع في رفح.

لم تنس ذات التسع سنوات أن ترسم المشهد المترسخ في ذهنها، طائرة العدو وهي تقصف المنزل وتحوله ركامًا بينما احتمت في جدتها وفتحت أعينها لتجد نفسها ملقاه على أحد الأسرة بمستشفى في غزة والطبيب يخبر والدها أن إصابتها طالت أمعائها وحالتها خطرة تستوجب نقلها بالخارج للعلاج، فاستيقظت في مصر.

الألعاب وحاسب أبيها المحمول ما يشغل ''رؤى'' عن الألم المغير لها بين الحين والآخر، لكن جسدها الهزيل لا ينهزم له، فكلما اشتد الألم عليها تعض يد والدها، تبكى آسفة لما فعلته بيده من جرح، فيشد من أزر الصغيرة لبطولتها وقوة تحملها التى فاقت صبر من في عمرها وأكبر منها.

ضحكتها الآسرة وملامحها الدقيقة التي تزيدهما قوة، لا تنكسر إلى أن يخبرها والدها أنهم سيذهبون في رحلة جوية إلى مالطة للعلاج، فتتحول تلك الضحكة لامتغاض وتلك القوة إلى مخاوف طفلة صغيرة من ركوب الطائرة بسبب مشاهدتها لإحدى الطائرات عبر التلفاز تسقط على الأرض، فتزول هدنة ''رؤي'' صاحبة التسع سنوات وفي تلك المرة لا تقوى على حبس دموعها.

أما ''معتصم'' ظل متلحفًا بغطاء النوم إلى أن سئم الأمر، فأطلق أنات لينتبه والده، وضعه على كرسي متحرك، وأخذ ذو السبع سنوات بيده الصغيرة يدفعه حتى باب الحجرة، تلك اللحظة التي كانت ''مروة'' تمر لزيارة رفاقها الصغار، ابتسمت له وتلقفت الكرسي تجره بالطرقة، ''بدي أنزل الحديقة تحت'' قالها ''معتصم'' وعلى وجهه ملامح الأسى، إصابته في قدميه تمنعه من الحركة، فضلاً على منع الأطباء لذلك كي لا تُنقل له العدوى لضعف مناعته، لكن الصغير لا يفهم ذلك، لهذا هو دائم العبوس والصمت مستغرقًا في التفكير على حد قول والده، يلتمس ''هدنة'' يفضلها في دقائق التجول بالطرقة، ومرح أحد الزائرين فيبتسم الصغير.

وبالردهة أخذت ''ميار إسلام'' تجري بين الغرف، عام وشهران عمر الصغيرة، لذا تناست ألم الإصابة باللعب، وكفت عن الصراخ الذي لازم الأسبوع الأول لها، تقدم الصغيرة على الدالف للغرفة بنظرة باسمة، كأنما تتعرف عليه، ثم تتراجع خطوات عائدة لوالدها، أو كرسيها البلاستيكي الهزاز، هي مصدر فرحة كل المتواجدين بالطرقة، تتلقفها أيدي الممرضات، والزائرين، ما بين الحمل والربت على رأسها، إذا ما كان مرورها سريعًا.

يُبدل لها والدها ملابسها، تزداد مرحًا بالرداء الأحمر الذي ألبسها إياه، تمضي حافية القدم اليمنى فيما لازال الجورب الأزرق يرافق اليسرى مخفيًا إصابتها التي تسببت في بتر أصابعها، لكن لا شيء يوفقها عن اللعب، ولو حتى الحزن البادي على وجه أبيها المصاب ذراعه، ولا الوجم الذي ينتاب جدها كلما تحدث ''بدنا نعيش زي باقي شعوب العالم.. بيكفي الحصار والحرب''، بل تبتسم وتناغشهم كأنما تهون عليهم المصاب، رغم أنها جزء منه، فقد لقت والدتها مصرعها جراء قصف منزلهم في ''رفح''، ولم يعد للزوج سوى أبناء ثلاثة أصغرهم ''ميار''.

''مروة'' هى الأكبر سنًا لكنها كلما استعادت مشهد إصابتها عادت طفلة، مجرد أن سمح لها الطبيب بمغادرة الفراش، لم تترك غرفة إلا وتعرفت على نازليها واصطحبت أطفالها في جولة بأروقة المستشفى لتجد معهم متعة من نوع خاص تنسيها وحشة ما حدث جراء العدوان الغاشم على غزة، ومنزلها الواقع في منطقة ''القرارة'' –على الحدود مع المحتل- بخانيونس.

ورغم أنها أتمت الخامسة عشر من عمرها إلا أن يوم إصابتها ''كان أول مرة تشوف دم'' حسب والدتها، وتشعر بمرارة الفقد التي تقترب منها هي وعائلتها، إذ أطلقت مدفعية تسللت بين الحقول قذيفة عليها فيما خرجت لتملأ المياه، فسقطت ''مروة'' غارقة في دمائها، وحينما لحق بها أباها أطلقوا عليه قذيفة أخرى، ليمتلئ المكان في ثوان بغبار معبأ برائحة الدماء.

وبمجرد أن يحاول أحد زائريها أو أطبائها كسر هدنتها النفسية بالحديث معها عن غزة ولحظة إصابتها هي وأبيها، تنزوي ''مروة'' في ركن صغير على فراشها، تنضب حمرة وجنتيها، تلعب بأصابعها في حركة انفعالية، بصرها يشرد وعقلها يحاول أن يتناسى في محاولة بائسة، وتتحول الفتاة المرحة التي لا تكف عن اللعب مع الأطفال وتدليلهم إلى أخرى تود أن تتوارى بعيدًا عن الأعين، وتغمض عينيها في محاولة للنوم.

قرب السرير المقابل لـ''مروة'' جلست الجدة ''مريم محمد'' جوار حفيدها ''محمود''، تربت على رأسه، فيما يستلقي ذو الأربع أعوام واضعًا إبهامه في فمه، وعلى هذا الوضع منذ مجيئه أواخر الشهر الماضي، تلك لحظات ''هدنة'' الصغير، فيما تثيره أي محاولة تقدم لغريب لا يعرفه، ولو لمحاولة اللعب معه، يظل يصرخ ''أمشي.. أمشي''، ولا يهدأ إلا جوار مَن يعرفه حال الشاب الـ''غزاوي'' المرافق لمصاب بالدور الخامس، والذي يأتي ليطمئن عليه.

لم يصب القصف أرجل ''محمود'' فجعلته عاجزًا حتى الأن عن الحركة، بل انهارت نفسية الصغير الأسمر، لا تعرف جدته ما الذي شاهده، فحتى الآن لم يتحدث عن شيء، لا تدري إن أبصر استشهاد والدته، وإصابة أبيه وشقيقته أم لا.

''أول يوم كان يصرخ وينفزع'' قالتها جدته فيما أضافت والدة ''مروة'' رفيقته بالغرفة ''أنا أول لما جيت على الغرفة طردني''، ما كان لأحد أن يعبر حدود الغرفة قبل أن يأذن الصغير بعد أن يطمئن له، فذلك كسر لـ''هدنته'' بينما الآن تقلصت الحدود وبات الكرسي المجاور له فقط ممنوع على الغرباء.

الانشغال باللعب أخرج الصغير شيئًا ما من حالته الأولى، وإن كان لازال ''شبح'' المشهد يطارده ''يبني بالمكعبات بيت ويهده'' حسب قول ''خالد خضر'' الاستشاري النفسي المتابع لحالة الطفل، وكذلك الرسومات لا تخلو من الطائرات، وخلاف ذلك يعود ''محمود'' لمص إبهامه.

بين الصغار، مَن لامس نسيم الحرية، فلم تصدق ''شروق'' صاحبة الأربع سنوات حينما وقعت عيناها على منظر النيل المقابل للمستشفى، في أول خروج لها بعد ثمانية عشر يوم تتنقل الصغيرة بين غرف العمليات؛ إصابتها البالغة في الحوض جعلها لا تقوى على الحركة، وزادها سوءً نقلها في عربة الإسعاف، غذ لم تتوافر فراش لها داخل العربة، فمكثت الطفلة في حضن خالتها –رفيقة رحلة علاجها- لتسع ساعات.

لا تخفُ ابتسامة ''شروق'' حتى مع تذكرها يوم الإصابة، فبهجة بداية اليوم تؤسرها، حيث ارتدت ملابس العيد التي أحضرتها لها والدتها، تهيأت في أجمل صورها بحذاء جديد وشنطة حمراء، وقبل أن تستمع الصغيرة بزهو العيد والملابس الجديدة ''اليهود قصفو دارنا وهدوم العيد بقى فيها دم'' قالتها الصغير متمنية أن تعود إلى منزلها ولأمها التي مكثت مع أختها المصاب بغزة لترتدي ملابسها الجديدة وتحفو بها وسط منزلها مع أخواتها وجيرانها.

تمكث ''شروق'' في سلام وهدوء تتحدث لخالتها، تستجيب لمداعبة السيدتان رفاق غرفتها، إلى أن يشتد الألم وينتهي مفعول المسكنات لتعود مرة أخرى للبكاء، وبدخول إحدى الممرضات مع حقنة في يديها ولو لم تكن لها؛ تنكسر هدنة الصغيرة ويعاودها الأنين وتظل تصيح مستنجدة بأمها الغائبة، على أمل أن تراها وتتوارى في حضنها

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: