لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

''صابرية''.. سجن ''الغربة'' يبدأ من داخل الوطن

02:23 م السبت 08 مارس 2014

''صابرية''.. سجن ''الغربة'' يبدأ من داخل الوطن

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - إشراق أحمد:

مرحبةٌ بالطارق على بابها الأبيض ''لحظة يا حلوين''، تجهل هوية الدالف لكنها تعرف جيدًا كيف يكون ترحاب أهل الكرم؛ لا يعرفون الضيم، علمتها أرض الجولان ذلك، تشربت منها طفولتها، تركت لها وشم يتوسط شفتها السفلى ''دُق'' وهي بسن السادسة، ''النزوح'' قدرها، و''اللجوء'' مصيرها من ''جنة الأرض'' كما اعتادت أن تراها، إلى ''ريف الشام''، حينذاك حدثت الشابة نفسها بلهجة موطنها ''اتشنطتنا'' -تغربنا، أبصرت أحفادها، ظنت أنها لن تعرف لغير الاستقرار أرضًا، اختلع قلبها بدوي القذائف، إلى ''مصر'' لجأت، هدأت يد زوجها وإيمان نفسها من روعها، فالصبر شيمتها والاسم ''صابرية''.

إلى قرية ''الفيش'' تنتمي السيدة السبعينية، اقترنت باسمها ''صابرية الفيش''، بمنطقة الحي السادس في أكتوبر تسكن كحال أغلب السوريين، بالدور الأرضي لبناية من ثلاثة طوابق، منذ ما يقرب من العام ينغلق باب الشقة عليها وزوجها -الذي يكبرها بثلاثة أعوام، صوت تلفاز يعلو من حجرة تواجد بها الزوج ''جلال السعيد''، يستلقي على مرتبة قطنية تفترش الأرض، بينما تركته ''صابرية'' لتجلس بالغرفة المجاورة تعد الغذاء، تقطف يديها أوراق الملوخية.

حصير يفترش أرض الحجرتين هو كل ما يتواجد بالشقة التي يتكفل بإيجارها أحد مؤسسات رعاية السوريين بالمنطقة، تتراكم حقائب سفر صغيرة، ومن فوقها أشيائهم من غطاءات نوم وغيرها بالحجرة التي تتواجد بها ''صابرية'' يدخل لها ضوء الشمس حينًا وتتوقف إن شاءت بغلق النافذة، خلاف هذا يظهر سيراميك أبيض.

سبحة جوار مكان جلوسها بمدخل الحجرة، وسجادة الصلاة في خلفيتها، فهنا تتضرع ''الخالة''–ينادي به السوريون كبار السن- وقت الصلاة وغيره أن يحفظ أبنائها ويعود الحال كما كان، ''أولادي بسوريا جينا على أساس يلحقونا وصار اللي صار''، قرار منع دخول السوريين إلى مصر بعد الأحداث التي شهدتها أرض لجوء السيدة وزوجها المسن، حالت بينها وأبنائها الإحدى عشر الذين تركتهم ورائها، لم يطمئن قلبها سوى على ابنتها الصغرى ''إلهام'' وأحفادها الأربعة منها، فهي الوحيدة التي استطاعت اللحاق بوالديها.

طبيعة نشأة ''صابرية'' كمزارعة ''نحنا فلاحين''، علمتها الجلد لكن لم تأخذ من حنوها كأمرأة وأم، تصرح للغريب بضيق صدرها حزنًا وقلقًا على الأبناء، ودوام بكائها، تترقرق الدموع في عينيها لكن لا تذرفها إلا في خلوتها، وتكتفي بكلمة هادئة بصوت الجدة الحكيمة لضرورة التحلي بالصبر عسى الله الذي أودعتهم إياه أن يجمعها بهم جميعًا، مطلقة ابتسامة يظهر معها سنتها الذهبية يسار فكها الأعلى ''حطيتها وأنا عروسة بنجهز القواعي من الشام''، كزينة قام بها البعض كتقليد فرحة بالزفاف، وضعتها ''صابرية'' التي كانت في الرابعة عشرة من عمرها ''جهلًا كما تقول، خاصة وأن سنتها لم تنكسر بل ثبتت ''الذهبية'' فوقها.

تكشف الشمس عن ضوئها، تستيقظ الابنة الكبرى لعائلة ''الفيش''، تساعد في زراعة الأرض الممتدة على مرأى البصر في الجولان، قبل 60 عامًا، الخضرة تحيط بهم ''القمح، الحمص، الفول، الزيتون''، أبقار وأغنام يذهب بها الراعي في البرية، يأكلون مما ملكت يمينهم، ''جنة النعيم ترابها دهب'' بالنسبة لها، يأتي لهم الرجال بالحليب ''نخضه نطلع منه زبداية'' مشيرة بيدها إلى كبر الحجم، تعبيرًا عن الخير.

بـ''الجولان'' ولدت ابنها الأكبر -أستاذ اللغة العربية- ''غازي'' تبعته بـ''غازية'' ومن ثم ثلاثة فتيات ''فاطمة وختام وناصرة''، لم تدرك ''الخالة'' أن أسماء أبنائها ستتحقق معانيها في حياتها، قوات الاحتلال تغزو موطنها، تخرج الأم بأولادها الخمس مع زوجها، تبدأ الدخول في سجن ''الغربة''، منكسرة، لم يحصدوا زراعتهم'' نزحنا لا شوفنا لا أرض ولا شيء ما كان معنا عشر ليرات''، آملت أن تعود منتصرة يومًا ما، بعمر السابعة والعشرين كانت، لم تشهد رصاصة، ما سقط قتيل فقط ''حافظ الأسد باع الجولان حتى يصير رئيس''، هكذا تعتقد، إلى الأردن لجأوا مع الجيش ''ردينا على درعها'' بعدها بقرابة الشهرين، حملت السيدة مرة أخرى، قررت أن تسمي مولدها ''عبد الناصر''، فهي تكن له حبًا كثيرًا، تمنت أن ترى ابنها مثله ''زعيم''.

في ''تل منين'' بمنطقة ''ريف دمشق'' مكثت أسرة ''صابرية'' عامين، انتقلت بعدها إلى ''جديدة'' بالشام'' اشترينا حتة أرض وعمرنا''، رغم الترحال حرصت على تعليم أبنائها الذين انضم إليهم مع الاستقرار بالشام ''عبد الناصر، بسام، ياسر إلهام، حسان''، لم يكمل الجميع دراستهم رغبة منهم لكن تلقوا نصيحة والدتهم في كل وقت ''ديروا بالكم على دراستكم وأزواجكم..كونوا رجال''، حتى صارت سمعتهم بالمنطقة كما تصفها ''ريحتنا مسك الحمد لله''.

أسبوع حصار، بيت جيران يشتعل تزكم رائحة سكانه المحترقين داخله، الأنوف، إطلاق قذائف فوق الرؤس لا تعرف عنها سوى أن''الله حمانا''؛ بعض المشاهد، ما كان بحسبان السيدة السبعينية معاصرتها، فالنزوح هذه المرة أصعب عما قبل 50 عامًا، الذي تصفه ''والله نشونا نش ما سابوا حدا ما ضربوا ولا قتلوا حدا كسيرة كسيرة تطلع''، بالمرة الأولى احتضنت أولادها، وبالثانية تركتهم مجبرة، استندت إلى زوجها، استقلا سيارة بعد أن هدأ الوضع قليلًا، هبطا أرض مطار القاهرة في الثالث من شهر مايو 2012، لم يجلبا سوى ملابس وبعض الأموال، نفذت بمرور الأيام.

طالما أحبت السيدة مصر، تلك المرة الأولى تراها، ''مصر أم الدنيا والشام شامة الدنيا'' تردد دائمًا، تطلق تنهيدة حنين بتذكرها الأراضي المترامية على مدد البصر بالنزوح الأول ''كنا مبسوطين بنزرع''، يزداد تأثرها بمشهد الخروج في المرة الثانية ''كله راح ما لحقنا في الشام شيء'' لم يبق سوى مكالمة تنتظرها من أبنائها كل أسبوع إذا سمح الوضع، فالسيدة المسنة لا تجيد استخدام الهاتف، والقلق رفيقها مع أبنائها، ما كانت تطمئن إلا بعودة الجميع للبيت في سوريا.

''لو ولادي معي ماني سائلة''، لن تحزن، أو تحمل هم، ليس فقط في غربة المسكن الذي لا يحمل شيء خلاف بيتها في سوريا، ولا التعامل الجاف نظرًا لسنها واعتقادها أن ''الناس فيهم هيك وهيك''، فالسيدة لها من الجيران السوريين والمصريين من تأنس لهم فضلًا عن ابنتها التي تسكن بالقرب منها، لكن في العوز الذي باتت فيه ''صابرية'' على أبنائها وزوجها المريض، فكل ما تتمناه ''نرجع على بلدنا سوريا'' داعية في صلاتها ''الله يهديهم وملائكة السما تهديهم ونرجع زي ما كنا، الله ما يأذي حدا حتى هنا مصر.. إحنا ملتجأين بها''.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: