لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

''مصر والأردن'' إخوة في الجنسية والشقاء.. والصحراوي

05:33 م الخميس 27 فبراير 2014

''مصر والأردن'' إخوة في الجنسية والشقاء.. والصحراو

كتبت - دعاء الفولي:

السادسة والنصف صباحًا، نفض عن جسده الكسل، استعد لليوم كما يجب، خرج من المنزل بمنطقة "كرداسة"، كسرت الشمس بشعاع دافيء ظلام الأرض، استقل أحد المواصلات لمنطقة الحسين، هناك سيقابل "ياسر مختار"؛ ليركب معه في السيارة الحمراء الصغيرة، ومعهما "عباس فريد"، "محمد سعيد"، وبعض المعاطف الجلدية، تتحرك السيارة رويدًا، تبدأ الرحلة حتى تصل لمستقرها الأخير على الطريق الصحراوي.

ذقن خفيفة، بشرة سمراء، طاقية من الصوف، أحزمة معلقة على الكتف، وظهر ينحني بين الحين والآخر، لتعدل اليد وضع الساعات على الرصيف، ثم يستقيم لترفع اليد الأخرى "الجاكت" أمام السيارات التي تهديء بطبيعة الحال بسبب الدوران، عين "أحمد عبد المُرضي" كانت على أصحاب السيارات الفاخرة "الملاكي" كما يسميها، يقترب سريعًا من إحداها عندما تسير أمامه، يختار أفخم معطف عنده، ليلفت نظر السائق، بعضهم يتوقف ليرى، الآخر يبتعد غير مُبال، و"عبد المرضي" يتنقل بضع خطوات بين النظارات الشمسية المفرودة على الأرض، ووقفته الثابتة رافعًا المعطف الجلدي.

يعلم "فريد" أن الشقة التي اختارها للسكن بمنطقة الأزهر، بعدما جاء مصر، ليست متسعة، الناس ودودون، لكنهم ليسوا كأهله في الأردن، قرر على أي حال أن يوقظ أخو زوجته "سعيد"، ليذهبا للعمل، حظهما الجيد أن العربة التي ستنقلهما تنتظر في الحسين، طبع "فريد" قُبلة على جبين ابنه ذو الخمس أعوام، فأذهب عنه النوم دون قصد، أصر الولد على مرافقته للعمل، بينما ترفع والدة "سعيد" الدعوات لابنها وزوج ابنتها قبل خروجهما.

يفعلان مثلما يفعل الباعة الآخرون، يقتربان من السيارات المارة، بعدما كان القلق ينتابهما، خاصة لملامح وجهيهما غير المصرية، يرتابهم السائقون، ثم يعتادون اللغة، غُربتهم عن مصر تضع حاجزًا بينهم والزبائن، لكنها تمكنهم من إقناع المشتري أن المعاطف صناعة تركية أو سورية، فيبيعانها أغلى من ثمن الجملة.

لا يتذمر "عبد المرضي" لبقاءه من التاسعة صباحًا على الطريق حتى السادسة مساءً، طالما يحمل له ذلك هامش رِبح أكبر "الشغل تحت في البلد صعب"، المعاطف لا تأتي من خارج مصر، بل من ميدان العتبة والموسكي "الجواكت جلدها كويس بس صيني لو حد ولع فيه مبيولعش"، يتباهى بتلك الميزة الأخيرة، خاصة إذا كان الزبون حذقًا في التعامل.

بدأت حياته المهنية القصيرة عقب حصوله على شهادة الدبلوم "بعدها دخلت الجيش 3 سنين"، لا يعرف سبب ذلك رغم أنه حاصل على مؤهل متوسط "بس كانت أيام كويسة، وكنت بشتغل برضو وقتها"، أثناء الإجازات التي يأتي فيها من المعسكر، كان يعمل سائقًا لـ"توك توك" بمنطقة كرداسة "أهو كنت بجيب فلوس أصرف على نفسي"، يحاول تجميع أموال كي يمتلك شقة، لحسن حظه فإخوته البنات الأربعة وأخيه الصغير ينفق عليهم الوالد "أبويا مبيخلنيش أساعده كتير في البيت".

بعد العودة من الخدمة العام الماضي، قرر "عبد المرضي" اللجوء للعمل في أحد المصانع "لقيت فلوسها قليلة 12 ساعة ب750 جنيه والمواصلات عليا"، أما الوجبات التي كان يسمع عنها فلم تكن موجودة أيضًا "لقيت الموضوع مش جايب همه"، علم من السائق "مختار"، أنهم يذهبون إلى الطريق الصحراوي قبيل بوابات الخروج من القاهرة، فاختار ذلك، متناسيًا بعض الصعوبات التي كان الجو البارد وبُعد المسافة أبرزها.

اصطبغ وجه "فريد" بحُمرة شمس الشتاء، رغم لُطفها، لا علاج لذلك سوى رفعه أحد المعاطف فوق رأسه، حاجبًا به الأشعة الضارة، أتى من الأردن على طائرة مع صغيره دون الزوجة قبل عشرين يومًا، على وعد العودة لها مرة أخرى بأموال أكثر، حال البيع في بلده ليس جيدًا "ولا في مصر هنا"، سيرحل في السابع من مارس المُقبل دون أرباح تُذكر "والله المصريين محترمين بس الحكومة مش بتتركنا بحالنا"، تلجلج قليلًا قبل أن يحكي مواقف مرت عليه مع ضباط شرطة أثناء العمل، بينما لم يتردد نسيبه "سعيد" في الرواية رغم قلة كلماته.

"جم امبارح أخدوا مننا 3 ساعات ببلاش وهما كانوا بسبعين جنيه"، قال "سعيد" عن أحد أمناء الشرطة الذي يظهر من حين لآخر مع دوريته التي لا تترك المنطقة، لقربها من البوابات، فتمتلئ بعناصر شرطية للتأمين، شجعت كلمات الشاب ذو الأربعة وعشرين عامًا، نسيبه الأصغر بعام، ليُكمل "الجاكت جملته بتقف 95 جنيه ممكن يشتروه مننا بخمسين وبنخاف نتكلم"، العقوبة على حد تعبيرهما تتعدى مرحلة التوبيخ، إلى الترحيل لأحد الأقسام "وممكن يهددونا بإنهم هيحطونا في البوكس طب إحنا عملنا إيه؟".

دورية شرطة مرت بطيئة من المكان، كمن أصابه مَسّ انصرف الشابان الأردنيين للبيع، عاد "عبد المُرضي" يُرتب أشياءه، يُفاصل زبون جاءه يشتري منه آخر معطف لهذا اليوم "هاخده ب120 آخر كلام"، استسلم الشاب ذو الأربعة وعشرين عامًا، أخذ الأموال، وعاد الرجل ذو الجلباب لشاحنته الضخمة "سواقين المقطورات بيشتروا مننا برضو بس دول مش بنغلي عليهم عشان بيبقوا غلابة".

يُساعد "عبد المرضي" في البيع "مختار"، سائق السيارة التي توصلهم، لا يتركهم الشاب الثلاثيني طوال اليوم "بركن العربية وأفضل مستنيهم، مينفعش أسيبهم عشان لو حصل حاجة"، أما ما يخشاه فكثير "ساعات الحكومة بتجري ورا العرب لما بيبقوا هنا وساعات بتيجي تتكلم مع البياعين عشان يمشوا فباخدهم"، ولكونه الأكبر سنًا فكان يشعر أنه يرعاهم بشكل ما.

ظروف "مختار" ليست مُختلفة، دفعته الفاقة كما فعلت معهم، سيارته الـ"تمانية راكب" كما يلقبها، كانت تعمل على خط الحسين والأزهر "بس بقالنا فترة دلوقتي بيدونا مخالفات عشان العربيات دي مترخصة ملاكي وإحنا بنشغلها أجرة"، لم يعارض الشاب الأسمر القانون "حاولنا نرخصها عشان تبقى بالأجرة بس منفعش، نفسنا ناكل عيش".

الإيراد اليومي لـ"مختار" يبلغ 100 جنيها ذهاب وإياب، يُخصم منها عشرون جنيها قيمة ملء السيارة بالسولار "أنا بنقل أكتر من أربعة ساعات بيبقوا 6 أو 7 مع حاجاتهم"، "مختار" أكثرهم كلامًا، أطولهم قامة، بدا عالمًا ببواطن التواجد على الصحراوي "بيبقى فيه الصبح حوالي 10 بياعين جواكت وبيبدأوا من بعد 2 ونص يقلوا لحد ستة بليل، منهم عرب كتير، ليبيين وسوريين وأردنيين".

نظرات الحزن لم تعتلِ وجه أيًا من "فريد" أو "سعيد" عندما يذكر أحدهما أن موعد العودة للوطن اقترب، بل يسليهما ذلك، مدة الإقامة القانونية بمصر قبل التجديد هي 3 أشهر، لكنهم بعد أقل من نصف المدة "ما بنكمل بنروح الأردن خلاص"، لا ينتظرهما مستقبل باهر بها كذلك، خاصة أن "فريد" ليس معه سوى شهادة الدبلوم، بينما لم يتعلم الآخر "الحكومة عندنا في الأردن بتمنعنا نبيع بس بمصر الوضع أصعب".

تبسم "عبد المرضي" بمرارة لكلمات الشابين، لم ينتظر أن يتدهور وضعه "أنا نفسي يهتموا بينا إحنا الشباب، الدولة كأنها بتقولي اسرق عشان تعيش وأنا مش عايز أسرق"، العمل في منطقة وسط البلد أسوأ من الصحراوي "هنا على الأقل مفيش بياعين كتير بيتخانقوا على المكان"، لكن مضايقات بعض رجال الشرطة تصعب الأمور "بياخدوا الحاجات أرخص من جملتها وبييجي علينا بخسارة بس بنخاف نعترض" على حد قوله.

لم يُخالفه "مختار" الرأي كثيرًا، واضعًا يده على كتف صديقه، قال إنه لم يستشعر اهتمام المسئولين بهم "كل ما ييجي رئيس يقول هيعمل ومبيعملش وفي الآخر على دماغ الشباب". أرض واسعة ليبني عليها، هي ما يريد السائق "كل المساحات الواسعة دي مين بيستغلها، مايدوهالنا نبني عليها ونسكن زي البني آدمين"، يشير بيده للأراضي المترامية على الطريق.

كانت الشمس قد بدأت في المغيب، لملم "عبد المُرضي" الساعات من الأرض، النظارات يضعها بعناية في حقيبتها، يُثني الأحزمة الجلدية، يتحسس مكتسبات اليوم بجيب البنطال الأيمن، لازالت أمامه رحلة ليلية، يذهب خلالها إلى العتبة للحصول على معاطف اليوم التالي، ثم يعود بها لمنزله بكرداسة، يُنادي على صديقيه الشاميين الذين حاولا بيع ما تبقى من بضاعة دون فائدة؛ ليدلفا وسيلة العودة لبيوتهم، "مختار" يقبض على مفتاح السيارة، يديرها، ثم ينطلق الجمع.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان