بالصور.. مصر في ''سوق الجمعة''.. ''اللي ما يشتري يتفرج''
كتبت: إشراق أحمد ودعاء الفولي:
هنا كانت مصر ولازالت، ترى خطواتها في سلحفاة استقرت فوق مثيلتها زادها زحام الأنفاس وهنًا على وهن، تحتمي بالكلاب وتهابها، كالأسماك يأكل كبيرها صغيرها، لا تعبأ بأي مكان توجد، تتناسى لكيلا تمل الطريق، مهما بلغ من فوضى شريطة ألا تغادر مياهها، ومثلها كعصفور يسُر الناظرين، يعجبون لشكله، يحفظونه في قفص، يتشبث به أهله جبّرا، ويتركونه اختيارًا كالحمام.. هنا ''سوق الجمعة''.
صامتون هم رغم الزحام، سيماهم في بضاعتهم، يصرون على الحياة رغم جيرتهم للموت، يبغونها في كنفه، لا يلفظون اليقين بحقيقته، فقط يريدون إحساس الحياة، شيمة السوق الصياح، أما هم فالضجيج شيمتهم، وغمغمات العابرين رفيق يومهم.
اجتمع البائعون على أرض السوق المجاور لميدان السيدة عائشة، حيواناتهم من جميع البلدان، أميركا، الحبشة، كندا، ألمانيا، اغلبها بين السلاحف والكلاب والسمك، هناك القرد الذي كان يداعبه كلْبا صغيرا، دجاجات تتحدث بلغتها داخل القفص، ديوك بدت قوية، وأفاعي، لا تخرج للنور إلا يوم الجمعة، تجلب ازدحاما فوق الازدحام، يستعرضها أصحابها، يضعونها حول أعناقهم، غير مبالين بسُميّتها، وعلى مقهى داخل السوق جلس رجال، يشرب أحدهم شيئا، ثم ينهض، ينفض عن جسده الكسل ليرحل، لا يتلفت للمولد حوله، رآه مرارا حتى سأمه.
''سهير ليالي وياما لفيت وطفت
وف ليلة راجع في الضلام قمت شفت
الخوف.. كأنه كلب سد الطريق
وكنت عاوز أقتله.. بس خفت''
بالساحة الأكثر سيطا ومهابة في السوق، نباح لا ينقطع، طالما الأيدي والأجساد تهم بإثارة ذوي الأنياب، هكذا تعرض الكلاب للبيع، وفي الغالب تكون مهمة صغار السن، يستعرضون بها شراسة الكلب، فكلما زاد النباح لفت الأنظار إليه أكثر، ومن ثم تتضاعف فرصة بيعه.
صغار الكلاب بالأقفاص، إلا قليل والكبار تقيدهم سلاسل حول ما تواجد من أشجار وحجارة ملقاة على الأرض، أو يمسك بها أحدهم في مدخل السوق حيث يتصدرونه.
''إبراهيم'' ككثير ممن اصطفوا بائعين ومتفرجين قبل خطوة الشراء، لديه من الهوى ما يمنحه لقب ''خبير'' بالكلاب أيا كان سبب اقتنائه لها. فـ''اللولو'' كان أحد خياراته الأولى منذ بدء شراءه للكلاب وهو ابن 15 عامًا، بعدها ''الأمن'' أصبح رفيق اختياره لنوع الكلب ''بجيبه عشان الحراسة''، وذلك رغم سكن ''إبراهيم'' بمنطقة شعبية، فالحالة الأمنية بعد الثورة زادت من حالة شراء الكلاب، هكذا وجد الشاب نفسه مجبرا في الاختيار.
استجاب للجلوس جوار قدميه، أسود اللون كان كظلمات الليل. ساكن لا يستجيب سريعًا لإثارة أحدهم كما أقرانه، كأنه استشعر المكان الذي ساقه صاحبه إليه، فقرر اليوم ألا يسبب المتاعب التي دفعت''إبراهيم'' لجلبه هنا.
''صاحب كلب يحرسك ولا تصاحب صاحب يحبسك'' مبدأ يؤمن به ''مصطفى'' و''إسلام'' وغيرهما من أهل ''الكار'' في بيع الكلاب، فهي بالنسبة لهم أكثر وفاءً من بني الإنسان.
''مش هيقولي تعالى نضرب سيجارة أو نسرق أو أي حاجة بطالة'' قالها ''مصطفى'' بإيمان بأن الكلب صديق؛ شاب له من الخبرة ما تجعله يفند لكل ما يعرفه عن الكلاب دون انقطاع، ليس فقط لأن ذلك العمل أساس رزقه، فهو لم يكن كذلك قبل ثلاثة أعوام حيث كان يعمل بإحدى الشركات لكن ''حال البلد وقف''.
يعشق ''مصطفى'' الكلاب، يجد فيها وفاء ينكره عن أصدقاء وزملاء ومَن تعامل معه طوال حياته الـ28 عامًا، قل إن شئت بينهما تجانس، لا يفهمه إلا مَن على شاكلته، له من الجرأة و''الجدعنة'' ما يجعله صاحب كلمة بالسوق، ومن الشراسة إذا استثاره أحدهم؛ ما أعطاه لقب ''دبشة'' ، ومن الحمّية ما يمنع أحد أن يجبره على شيء ''لو حاجة مش على هوايا مش هعملها''.
قلادة فضية استدارت حول عنقه، خاتم ذو فص أسود اتخذ مكانه ببنصر يده اليمنى، بدا كأحد أبناء المناطق الشعبية ''أنا ساكن عند الإمام الشافعي''، حنكته بالتجارة منذ سن صغيرة طبعت على كلماته فربما ظن الغريب أنه لم يتلق قدر كامل من التعلم ''مكملتش بعد دبلوم تجارة''، أكسبه السوق منطق بالحياة ''الزبون وهو داخل علينا بيبان.. اللي زينا لازم يترحم واللي معاه فلوس بيطحن وكده يعني''.
قد تختلف معه بينما يختلف مع رفقاء السوق ''في ناس ماتفرقش معاها حاجة أي حد يدي له على عينه''، لكن ذلك لا يستقيم في منطقه لذلك يقف أمامه ''لو واحد جه وعايز يجيب لابنه كلب امشيه وأقوله مافيش، لأ أجيب له كلب وممكن أحط له 200 جنية من جيبي كمان، لكن لو واحد شايف إن عيشته مرتاحه الكلب أبو ألف أقوله بـ2000'' ، لا يتركك ''دبشة'' هكذا دون مبرر لفعلته ''ربنا اللي بياخده من هنا بيعوضه هنا''.
قرب ما يسميها ''الفرشة''، تجد مقاعد بلاستيكية يجلس عليها الرفاق ''دبشة'' و''إسلام'' بعد ما ''نشتغل شوية''، هنا لا نداء ولا لحاق بزبون، وإن لا يختلف الحال عن أي سوق آخر حيث لكلٍ مكان لا حدود مرئية له لكنه على علم به لا يتعدى عليه أحد، فقط استثارة ''روي'' أحد الكلاب المفضلة لديهم وأقرانه للنباح بينما هم مقيدين بسلاسل حديدية في أفرع شجرة .
وكختم قُرْب من المكان هي ''العضة''، لم يسلم أي من بائعي الكلاب من التعرض لها بغتة أو عن رضا، فلازالت آثار هجوم إحدى الكلاب على حين غرة ظاهرة على القدم اليسرى لـ''إسلام''، وستظل قصص ''عض'' صغار السوق تتبادل فيما بينهم وهؤلاء الصبية يتجولون مستمرين في التردد على ساحة البيع.
لم يندم ''مصطفى'' منذ شهر على قيامه بأمر الكلب الـ''جيرمن شيبر'' الذي تقاضى عن تدريبه لأسبوعين 7 آلاف جنية لكي يعضه ''كنت عايز أجربه أشوفه حلو ولا لأ'' .
ورغم ما قد يراه البعض خطر يتعرض له مَن بساحة تلك الكلاب، إلا أنه ''هوى'' بالنسبة لهم، يزيدهم عشقًا، ولا يحيد عن يقينهم بوفاء تلك المخلوقات شيئًا، فأسوأ ما يجده ''إسلام'' رفيق ''مصطفى'' في السوق ليس خطر التعامل مع حيوان إنما ''البني آدمين اللي بترازي بعض، ممكن عشان واحد بيبع كلب والتاني ما استرزقش عيل يقف يقوله للزبون لأ رزقني أنا ماترزقوش ويمسك في الكلب وتبقى مشكلة'' .
الأمر الذي اعتبره الشاب الأسمر ذو الشعر المجعد، جديد على تعاملات السوق وما أدخلته سوى الثورة ''من ساعة الثورة وهي خربت الدنيا؛ الصغير مبقاش يحترم الكبير كل واحد فارد عضلاته على التاني'' .
غير بعيد مكث ''حازم''، متكئًا بكتفه على الحائط، لا يوجد أسفل قدميه كلب كالآخرين، لا يداعب الحيوانات التي ملأت المنطقة المُحيطة، ولا يناوشهم، فقط متأملاً السوق، غارقًا في المهنة مثل أصحابه الذين جلسوا حوله، عمله انصّب على منطقة ''التجمع الخامس'' حيث يقطن ''الناس هناك عارفني وبيشتروا كلاب مني''، لا تختلف أسباب قاطنوا التجمع عن غيرهم ''كله عشان الأمان''.
تتصدر ساحة بيع الكلاب مشهد السوق خلال يومي إقامته وتحتل مدخل المدافن يظهر عبر فتحة سور عين الصيرة، يتأزم الموقف خاصة يوم الجمعة الذي منه كان اسم السوق، ففي الغالب مع تكثر الجنازات ذاك اليوم ''الناس بتبقى عايزة تدفن وحقهم إن المكان يبقى طاهر'' قالها ''إسلام'' معتبرًا ذلك إحدى المشاكل التي تؤرق العاملين بالسوق.
سمكة يمكن أن تقتل كلب؛ ليست مزحة بل حقيقة لا غبار عليها لدى بائعي الكلاب ''لو كل سمك بيجي له حساسية وشعره بيقع ويموت''، فأجنحة الدجاج مأمن لطعام الكلاب في السوق .
الخوف ليس له مكان وسط بائع ومشتري الكلاب إلا للغرباء، فهم يعرفون أنها ''ممكن تموت نفسها عشان صاحبها''، ويرون مرأى العين قصص أشبه بالأفلام السينمائية عن ''بطولات'' وفاء رفقاء السوق حتى البيع، فيحكي ''إسلام'' عن زميلهم ''هشام'' حينما أرادت ''الحكومة'' -الشرطة- القبض عليه ''ضربوله الكلب بتاعه''.
قفز ''جاك'' على الجنود للدفاع، لا يعرف وصف المتهم أو المشبه فيه أو حتى المجرم، فقط ''صديقه في خطر''، انطلقت ثلاث طلقات لقى الكلب مصرعه على إثرها، وسقط ''هشام'' يحتضنه قبل أن يلقى الأمن القبض عليه. هكذا وصف ''إسلام'' الذي لا يختلف حاله عن ''مصطفى'' الذي إذا أراد الابتعاد عن الأصدقاء فاصطحب الـ''جيرمن شيبر'' للسير، وكذلك هو فالآمان بصحبة كلبه جزء من الحياة ونجاة ''مرة كنت ماشي بليل متأخر وكان في أمن فكيت السلسلة والكلب ماشي جنبي فبعدوا ''.
يداعب ''إسلام'' الكلب ''روي''، يناديه ''يا وله'' فيقفز عليه حينًا ويركن إلى الأرض بإشارة من يده حينًا أخر، وينبح في وضع هجوم حينما يأمره ''مصطفى'' بذلك. فـ''الكلب بيفهم''، وهذا لا يمنع من وجود آخر ''غبي'' لا يستجيب لأمر، لكن في عالم الحيوان السيئة ''حسنة'' عند بني آدم ''الحراسة ينفع معاها الكلب الغبي''، وعند مروضيه ''الكلب الغبي انا اللي اعضه''، قالها ''مصطفى'' بسخرية.
''حازم'' أيضا لديه كلب، ضحى بحياته لأجله'' مرة كان الكلب بتاعي موجود فوق السطح وحصلت خناقة تحت البيت بأسلحة، الكلب نط من الدور الخامس عشان يلحقني.. ومات'' . قصة سردها الشاب الذي بلغ السابعة عشر من عمره للتو، يُربي الكلاب منذ كان في الخامسة ''هي هواية من زمان'' النزول إلى السوق لم يُصبح ''أكل عيش''، لتلميذ الثانوي بعد.
''بنزل لما بيكون معايا كلب أبيعه''، فيما عدا ذلك لا يضطر للخروج من المنزل، فالأمر للتسلية ''وقت الإجازات بتاعة المدرسة بشغل الوقت''، وعندما يعود موسم الدراسة، يعود الطالب للفصل، ولا يبقى من التجارة سوى كلبه الوفي يلازمه.
وإن كان أغلب ''زبون'' السوق كحال البائع ''الناس البسيطة اللي عنده محل أو غية ممكن تتسرق'' ، فالأخير دخل المجال في الغالب صدفة، إن لم يكن وريث المهنة كحال ''مصطفى'' ، وهكذا صاحب رباط الشعر بعد أن جذبته شخصية ''ناصر'' الذي يمكن اعتباره كبير السوق ''وانا عندي 11 سنة كنت بهرب من المدرسة وآجي أقف معاه''.
قرر ''إبراهيم'' الشاب العشريني أن يسوق كلبه الـ''بلاك توت'' للسوق عسى يبيعه، فهكذا يفعل كل مرة اقتنى فيها كلب جديد ''أصله عامل مشاكل'' .
فوق سطح منزله بالسيدة زينب سكن الرفيق الأسود، لا يتركه إلا بأمر صاحبه، إما بخطوات قليلة عن مكانه مع كل مرة من المرات الثلاث لتناول الطعام، أو لمصاحبته في طريقه للقاء الأصدقاء، فأينما قرر الشاب ثم وجهه ''الجيرمن شيبر''.
نباح متكرر، يتبعها شكوى الجيران، وجَد الشاب، ومواقف مع الأصدقاء لم يغب عنها الشكوى، دفعت بالرفيق الأسود إلى طريق لا يريده، فكان سكونه خير تعبير.
''الكلاب البلدي بتبقى سارحة في الشارع، وده بيموتوها'' قال ''إبراهيم''، فلا مكان بالسوق إلا للأنواع ''المستوردة'' التي تستحق البيع وتدر المال، خاصة بعد أن ارتفع سعرها عبر السنوات الثلاث الأخيرة من 150 جنية لأقل نوع حتى الضغط على الجنيهات الثماني مائة لاقتناء نوع من الكلاب البعيدة عن غرض الحراسة ''الكلاب غليت زي ما كل حاجة في البلد غليت احنا بس اللي بنرخص''.
من أجل ذو الأربع المتكئ عليها رأسه بأرض السوق بين همهمات العرض والطلب، ونباح الأقران بمجرد استثارتهم، ينفق رفيقه ''إبراهيم'' 15 جنيها لإطعامه، لا يجد ضير في ذلك فالهواية مَن تحكم، والرزق متيسرا في عمله بمصنع شهير لإنتاج الحلوى الطحينية، فلا حاجة له بالبقاء حتى انتهاء موعد السوق في الرابعة عصراً – والذي يبدأ مع الفجر- كبقية مَن اصطفوا عارضين للكلاب، ولا دافع للتردد عليه إلا لحاجة ''مش بشتغل هنا، أنا أول مرة أجي النهاردة عشان أبيع الكلب''.
''يا طير يا طاير فـِ السما يا بختك..
لا فارق معاك حاجة وعايش براحتك..
لو عرفت إيـه اللي فيـنا..
عـمرك ما هـتبص تحـتك''
''أوفى من البني آدم'' هكذا الكلب لدى ''مصطفى'' وبينما يقولون إن العصافير رمز الحرية، تطير حيثما تشاء، يستغفر''بهاء الدين'' من ذلك التشبيه ''إزاي نشبه البني آدم بالحيوان''.
قفص صغير، خمس عصافير أو أكثر، واحدة وقفت فوق أرجوحة تدفعها للتحرك، ترويحًا عن سجنها المستديم، من يد ليد تُنقل العُصفورة، يأخذها صاحبها من ظلمة القفص في المنزل، لترى البراح في الشارع، ولا تلمسه، أجنحتها توقفت عن الرفرفة منذ حاولت آخر مرة كسر القضبان بجناحيها الضعيفين، مر وقت طويل، ولو كان عمر العصافير يُحسب بقدر حريتها، فهي لم تُولد بعد.
تعرف العصفورة جيدًا يد صاحبها المتشبث بقفصها، يعرض ألوانها الزرقاء المتداخلة مع الأبيض على المارة دون أن يُنادي عليهم، يأتي البشر، يئلوا البائع عن سعرها وأخواتها في القفص، ومن أين أتت؟، استراليا، كندا، والحبشة، تلك البلاد موطن العصافير التي يبيعها ''بهاء الدين''، لا يحب الرجل الخمسيني الثرثرة، يضمحل وجهه إذا ما تكلم معه الزبون طويلاً عن أنواع العصافير، مغالبًا رغبته في سؤال ''هتشتري ولا لأ؟''.
هوايته جمع العصافير، ثم بيعها وشراءها، يفعل ذلك منذ أربعين عامًا، يمتلك منها العديد بمنزله ''عندي عصافير بتاعتي.. بس الأكتر إني بجيبها أربيها واجوزها وابيعها''، عمله كموظف لم يمنعه من استمرارية التجارة فيها. السوق لا يُزعجه رغم الازدحام ''أصل الناس هنا طيبة وعارفة بعضها''، طيوره ليست الوحيدة، هناك من الباعة من هم مثله ''معظمنا بيبيع ويشتري في نفس المكان، وبنتعامل مع بعض''، أقفاص وأقفاص، باعة وحيدون يحملون عصافير شريدة مثلهم، وكِبار المكان من أصحاب المحلات، الجميع داخل السوق يسري عليهم الحُلْو والمُرّ.
أسعار العصافير تبدأ زهيدة ''من عشرة جنيه للجوز، لحد البغبغانات ممكن توصل للآلاف''، مشيرًا بيده إلى ببغاء وقف فوق قفص أكبر قليلاً، ''البغبغان اللي هناك ده بيتكلم''، كأن صاحبه أعطاه مساحة حرية -وقتية- أكبر، ليراه الناظرون يتحدث، ثم يدلف للقفص ثانية.
ذكريات ثورة يناير الأولى، تطرق ذهن ''بهاء الدين'' أحيانًا ''شفناها.. كنا في السوق هنا والدنيا كانت والعة''، تلك أوطد علاقة ربطته بها يومًا، أما الأشياء التالية فلم تعنيه بقدر ما عناه الاستقرار ''نفسنا البلد تمشي لقدام بقى''.
''هواية جميلة'' قالتها ''أم يوسف'' موزعة نظراتها بين أقفاص العصافير؛ ليتلقفها ذاك القفص فلا تبرحه لدقائق، خلف ''قضبانه'' عصافير تعرفها باسمها وتنطق بحبها ''زيبرا''، صغيرة الحجم ذو منقار أحمر على عكس رفيقاتها الزرقاء والصفراء اللون.
تمر السيارت بنفيرها وسط الزحام، لا شيء يحيد ''أم يوسف'' عن غايتها؛ عصفور جديد تضمه للعشرة الأخرين التي تملكها، ''زقزقاتها'' وحركاتها المتناسبة مع السيدة المسنة، تجذبها للمجيء من حلوان إلى السيدة عائشة مع موعد السوق، على مدار عشر سنوات. لم تأت السيدة المنحنية الظهر إلا رضاءً لزوجها المسن بحثًا عن صوت وشكل عصفور جديد يؤنسه.
''في قلبي كلاكيع لغم ونغم ولا بلاش خلينا في الوصف البراني''.
بشكل ما كان هناك مكانًا داخل السوق يمكن السير فيه، بعد الأجساد المتخبطة، والسيارات الغاضب سائقوها، فأطلقوا النفير، ظنًا أن ذلك سيجعل الشارع أوسع، يقف أحدهم أمام حيوان يُشاهده، يزاحمه آخر، دون قصد، أو يعنفه قائلاً ''خليك على جنب يا أستاذ.. مش عارفين نمشي''، ينظر له الواقف أمام قفص صغير مليء بالسلاحف المتكدسة فوق بعضها، ثم لا يُعيره اهتمامًا، تلاعب أصابعه ظهرها الصخري، لا تستجيب السلحفاة، لا تتحرك إلا قليلا، استكانت أخيرًا لحقيقة أن الازدحام سيلازمها دائما كما التصق بالبشر خارجا.
كرسي صغير جلس عليه ''طارق''، البائع ذات السبعة عشر عاما، يُفاصل الناس في أسعار السلاحف خاصته ''أصغر واحدة بـ85 جنيه''، ترفض سيدة الرقم، تهم بالذهاب، بينما يتشبث صغيرها بالقفص، يريد واحدة، تشد يديه وترحل، لا يناديها البائع ليستعطفها، لعلمه أن السلاحف لم تأتِ بسهولة كما يظن المتفرجون ''أصلها متهرّبة من ليبيا''، يتخذ ''طارق'' حذره عند الحديث عن ذلك ''ممكن اتحبس فيها''، لكن ''معنديش حل تاني.. لازم اشتغل وابيع''، كما كان لزاما على السلاحف أن تلاصق بعضها داخل القفص.
يعمل الفتى مع والده وإخوته بالمهنة منذ التاسعة، ينزل لذلك السوق الذي يشبه سوق الحياة الواسع، وعلى حافته، حدثت الثورة ''وقت ثورة يناير شمينا غاز كتير جدا، كان فيه ضرب نار ومظاهرات''، رغم أنه ذهب لميدان التحرير في يوم الخامس والعشرين مع أصدقائه للاستطلاع فقط ''أنا مليش في السياسة بس قلت أشوف''، لم يخرج في مظاهرة بإرادته إلا تظاهرات 30 يونيو، ولن يفعل في أخرى قادمة، فلا يشغله سوى استمراره في السعي على الرزق، الذي ترك بسببه الدراسة ''كان مفروض أبقى في 3 ثانوي''.
جاءت زبونة تسأله عن سلحفاة صغيرة، قبل أن يُعطيها لها، أرسل الصبي الأصغر منه لتنظيفها ''روح أغسل دي وتعالى بسرعة''، كي تراها السيدة، فما كان من الطفل إلا غمسها في ماء متسخًا، ثم أعادها لـ''طارق''.
''امسكها ما تخفش'' قطعت ''دعاء'' مع ابنها شوطًا من التعامل حتى تصل لأول لمسة من يد صغيرها ''عبد الرحمن'' لسلحفاة صغيرة اختطفتها يد ''طارق'' من بين أخريات، ومن ثم وضعها على راحة يده، انتشى الصغير بفعلته، ومعه البائع، بينما اقتطعت الأم ابتسامته ودعائه بحفظ الصبي لها بالسؤال عن الثمن.
خفتت ابتسامة الأم قليلًا ''غالية أوي'' مقررة انتهاء جولتها مع ''طارق''، داعيًا الصبي العامل معه بغمز الصغيرة التي أخرجها من القفص في ماء عكر تواجد بالجوار.
''جربت اللعب فقلت أشوف حاجة جديدة تشغلهم غير التليفزيون'' قالتها ''دعاء'' منفذة وعدها لابنيها بشراء حيوان ممسكة بزمام أمور الاختيار الذي وقع على السلحفاة ''مش عايزة أجيب حاجة تجيب مرض أو حاجة تأذي، وكمان كنت عايزة حاجة تستحملهم''.
أقبلت فتاة وشاب، بدا على البنت ذات النظارة الشمسية معرفة جيدة بالسلاحف، وقفت الأم تتبادل معها الحديث، فخبرة ''دعاء'' في الدراسة والعمل كإخصائية اجتماعية ونفسية، يمكناها من التعامل، ودافعها كأم تريد أن تسعد صغارها لا ينحيها عن هدفها ''عايزة اعلمهم الرفق عشان يرفقوا بيا''.
تقدم صغير بملامح واثقة فارغ اليدين، طالبًا ''حمامة نتاية.. زغلولة'' ، أخبره ''سيد'' أن يختار واحدة من القفص الخشبي، فأخطأ الاختيار ''دي دكر''، قرر أن يتركه لصاحب الخبرة الأكبر، فأحكم قبضته على واحدة معطيها إياها، بين يديه تفحص الصبي بأصابعه حمامة غلب عليها اللون البني، سأل الصبي عن السعر، فجاءه الرد أكثر مما يملك، فاستبدلها بأخرى بيضاء، استساغ هيئتها وقرر الشراء، وأخذ يفاصل بعد معرفته أن ثمنها 30 جنية ''أنا معايا 20 بس''، هادئًا كان ''سيد'' ، كلامهما ذو نبرة خافتة ''طيب هات 25 وخدها''، لم تعد الحمامة للقفص، حصل الصغير على مبتغاه، وما أن تراجع خطوات على مرأى ومسمع من صاحب ''الحمام''، عرض ذو الأعوام الصغيرة حمامته التي اشتراها لتوه على آخرين جلسوا على المقهى.
وبالجهة الأخرى من السوق أقبل صبية ''مصطفى وإسلام'' منتشيين''، فتساءل ''إسلام'': ''بعتوه؟ فقال أحدهم ''رحنا بعناه بتمنه''.
''وكم غنى هو الطائر
وقبلا كم ثوى طائر
أما للسرب من آخر؟!
إلام نجئ ثم نروح لا جئنا ولارحنا
إلام نعيش ثم نموت لاعشنا ولا متنا''
كالحمامة، يضيق صدره حينما تُربط أقدامه، ويمتنع عن الحركة، لكنه لا يستسلم في المحاولة للفرار من مكانه بحثًا عن الرزق.
من عامل رخام وجد نفسه قبل عامين جالسًا على المقهى بانتظار أحد الزبائن يستدعيه، إلى بائع حمام، صاحب ''فرشة'' جوار ذلك المقهى. الصدفة وحدها هي ما أدخلت ''سيد'' لمزاولة ذلك العمل، تتبعه لحركة البيع والشراء داخل السوق من مقعده، دفعته ليكون واحد من المشهد بعد أن وجد الرزق ''حلو''.
''بشتري من هنا، مش بروح بعيد'' مبتسمًا قال الشاب الثلاثيني. ''سيد'' لا يضطر إلى الترجل بعيدًا عن مكانه لجلب ''جوز'' حمام جديد يضمه لقفصه، فما بين نفثة دخان من سيجارته يأتي أحد الصبية يعرض حمامته للبيع، خلاف من تعامل معه ويأتي إليه بين الحين والآخر، وما أن يجد والد الثلاثة أبناء في حمامة ''الجودة'' حتى يشتريها، ومن ثم يبيعها للزبائن آملًا أن لا يصل الفصال حد الاختناق ''أكتر مشكلة هنا التعامل مع الناس اللي نفسها طويل''.
''العين سليمة والصدر والريش كويس'' مواصفات يبتغيها ''سيد'' في حماماته التي يقبل عليها في أغلب الأحوال، رجال كحاله الحمام بالنسبة لهم ''غية'' وإن اختلف الهدف لكن الهوى واحد، غير أن أغلب النساء إن أقبلت كان الشراء للطعام.
''الحمامة اللي تتروش تدبح'' هكذا مصير الحمام لدى منطق بائعيه، ما إن اخترقت أذنيها تلك الحشرة الصغيرة، وظهر عليها الالتفات والتشويش كانت على موعد مع الموت.
''الرزق غلاب'' عقيدة يؤمن بها ''سيد''، يسرد ذلك الموقف الذي لم يستطع حتى اليوم استيعابه؛ حين جاء إليه أحدهم طالبًا تصوير الحمام مقابل مبلغ مالي، بادله الترحاب وأخذ ينفذ ما يقوله يربط له أرجل إحدى الحمامات في القفص، فتظل ترفرف بأجنحتها ويلتقط الرجل الصور وأخرى يضعها دون قيد لكن بعد وعد أن يحصل على ثمنها إذا طارت، لكنها لا تفعل. 200 جنية حصل عليها ''سيد'' ولا زال منبهرًا بالمبلغ ولا يعلم السبب غير إنه ''رزق''.
يـا مـيت ندامة على اللي البحر ما ادّاله
مفـتوح علـيه الحَنَك والكـف ما دّالـه
عَـدى الشطوط والخطوط اللنش عَدى له
غـفر السـواحل يـا صاحـبي مستعداله
أحواض السمك كانت متراصّة من فوقه ولجانبه، ألوانها شتى، بين البرتقالي بدرجاته، وحتى الأزرق، ثم الأسود، حوض إلى الأعلى قليلا به سمكة متوسطة الحجم، تعيش وحيدة، لا يمكن لأخرى مشاركتها، فهي تأكل الأصغر دائما، ولجانب حوضها، آخر امتلأ بأسماك ضئيلة، كثيرة العدد، لا يمكنها العيش مع سمكة واحدة أكبر حجما، إذ تقوم بقضم ذيلها وجسدها، حتى تُنهيها، وفوق الحوضين، كانت أحواض أخرى مليئة بسمك، لا يعبأ بالنوعين، سوى طعامه اليومي وحياة أفضل بحوض أوسع.
''مصطفى'' له من العمر سبعة عشر عاما، لا يريد سوى السفر ''مش عايز أقعد هنا خلاص'' رغم الرزق المتسع، على حد قوله، والتجارة الرابحة ''اللي بيتاجر في التراب هنا بيتحول لدهب''. السفر سببه ليس العمل فقط ''نفسي اتفسح.. مهما كان أكيد برة مختلف''، إيطاليا ستكون وجهته إذا ما قرر ''بشوف صورها على الانترنت بيقولوا جميلة''، ولو لم توجد إيطاليا، فلا مانع من غيرها، المهم الابتعاد عن ازدحام السوق، أما علاقات الناس، فرغم كونها طيبة أحيانا ''بس ساعات الخناقات هنا بتبقى بأسلحة.. سنج ونار''.
''سلامٌ على الفار اللي بيلعب في عِبّ الفار اللي بيلعب في عِبّ الناس''.
الخوف في السوق سيد الموقف، لا يسلم منه أحد، حتى أولئك الذين يحتكرون الكلاب، يدفعون بها عنهم الخوف، بينما ترتعب فرائسهم من البشر، لعلمهم أن الكلاب لا تخون صاحبها، إلا أن يتركها السيد. أما الباعة الآخرون ممن لا حماية لهم، فيتقصون الحقائق علّ قلوبهم تطمئن ''قالولنا هيشيلوا السوق.. هما هيشيلوه فعلا؟.. هنروح فين؟''، الكل يتخيل الوضع إذا ما جاء القرار بالإزالة، لتراودهم ذكرى المرة الأولى التي رحلوا فيها عن منطقة الإمام الشافعي، قبل الثورة بأعوام، هم ما بين ترحال سبق، وانتظار يعشش في الأنفس. ''الخوف عندي لأن السلاحف متهرّبة'' تلك كانت حجة ''طارق''، يسكنه توجس من وزارة البيئة تأتي، تكشف النقاب عن سلاحفه، فتكون العاقبة وخيمة، لكن ''أم دعاء'' في المقابل كانت تمتلك محل كبير، على اسم زوجها ''جمال زلومة''، تفتح أبوابه طوال الإسبوع، لا يهمها شيء في السوق، ''احنا هنا من 40 سنة''، إلا أمر واحد ''بخاف لما بيحصل خناقة كبيرة.. بيكسروا المحلات.. احنا اللي بنتضر ومفيش شرطة هنا''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: