"هاجر ومحمود".. قصة مراهقين نضجا مع الثورة: "أحسن حاجة حصلت لنا"
كتبت - علياء رفعت:
مراهقتهما لم تسِر في طَورها الطبيعي كالعديد ممن في مثل أعمارهم الذين يخرجون بهدوءٍ من شرنقة الطفولة إلى النضج على استحياء تام. لم يقضوها بين قراءة الروايات، والاستماع إلى الأغاني الرومانسية أو الانخراط في التجمعات رفقة الأصدقاء، فقد فرض عليهما واقعهما شيئًا مُختلفًا، فوجدا نفسيهما يرابطان إما في ميدان التحرير أو أمام القنوات التليفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي ليتابعا ما فاتهما من أخبار.
الرصاص، الدماء التي سالت في الميدان، ورائحة الغاز ذكريات لازالت عالقة في ذهن "هاجر" و"محمود" عن فترة مراهقتهما، فقد شكلت الثورة وجدانهما، وهذبت نفسيهما، وغيرت مجرى حياتهما فكان لها أثرٌ لم يُمحى حتى بعد مرور 6 سنواتٍ على ما اختبروه في أيامٍ كان لها عليهم كُل الفضل.
محمود.. مراهق غيرته الثورة
أمام شاشة التِلفاز الصغيرة في منزله، ظَل "محمود" مُرابِطًا لأيام. منعته امتحانات الصف الثالث الإعدادي من النزول إلى الميدان في أيام الثورة الأولى، فكان يقضي وقته ما بين استذكار دروسه، مشاهدة التليفزيون، ومطالعة الأخبار المتواترة على كافة أشكال وسائل التواصل الاجتماعي. لم تكن له في ذلك الوقت سوى رغبة واحدة يكررها على مسامع والديه ليلًا نهارًا "سيبوني أنزل الميدان"، لكن خوف الوالدين عليه وعلى أدائه في امتحاناته منعهما من السماح له بالنزول، على وعدٍ منهما بأن يسمحا له بالمشاركة بعد انتهاء كافة الامتحانات، وهو ما كان بالفعل.
الثائر الصغير، ابن الأربعة عشر عامًا -وقتها-، لم يهدأ حتى بعد أن وعده والديه بالسماح له بالمشاركة بعد الامتحانات، كان يشعر بضرورة المشاركة في الحدث الأهم بتاريخه، وهو الذي تربى في بيت ضابط بالقوات المُسلحة فكانت المناقشات السياسية بالنسبة له كالماء والهواء حتى أنه قبل قيام الثورة مزق صورة الرئيس حُسني مبارك المُعلقة بفصله، ليواجه وابِلًا من التوبيخ من مُدرِسته على فعلته التى بررها بتلقائية "ده رئيس زور الانتخابات عشان يحكم، نعلق صورته ليه؟!".
ظل "محمود" يفكر طيلة ثمانية عشر يومًا، كيف يمكن أن يشارك ويعبر عن رأيه، فاهتدى فِكره إلى حيلة بسيطة دفعته لتفريغ الأشعة الطبية التي أجراها قبل أيام على هيئة شابًا يرتدي قناعًا ضد الغار المُسيل للدموع، ثم قام بتثبيت قطعته الثورية فوق حائط فصله الذي يؤدي فيه الامتحانات ورشها برذاذٍ أحمر ليصنع جرافيتي يشابه ما رسمه الثوار على حوائط ميدان التحرير.
عقب التنحي، وفي عهد المليونيات الأول؛ كانت المشاركة الفعلية لمحمود بالثورة. تلك التى آمن بها واستمر في دعمها بكل السُبل على مدار عامٍ كامل "كنت بزوّغ من الدروس أوقات كتير عشان أهتف في مظاهرة ولا أمشي في مسيرة".
كُل شيء تغير بحياته منذ ذلك الحين فلم يعد إلى سابق عهده أبدًا، ففي سنٍ صغيرة علمت الثورة المُراهق الذي حمل مبادئها على عاتقه، كيف يتقبل الرأي الآخر وإن كان يخالفه، وألا ينحاز لفصيلٍ دون آخر حتى وإن كان الفصيل الذي ينتمي له والده بآرائه ومعتقداته، وأن يفرق بين الغث والثمين من الإعلاميين اللذين ناهضوا الثورة وأولئك اللذين دعموها. أما ما حفرته الثورة بمحمود فصار مبدأً لا يتجزأ من مبادئه هو أن يدافع عما يؤمن به حد الموت في سبيله، فكان الشاب على استعداد لفعلها قبل سِت سنوات " كان تمن رخيص أوى عشان تبقى البلد أحسن".
الآن، صار من كان مُراهقًا شابًا يافعًا له الحق في الممارسة السياسية عبر التصويت في الاستفاءات والانتخابات المختلفة، ورغم أنه يرى الثورة التى حيا بمبادئها سُرقت وسط ما تمر به البلاد من أوضاع سياسية واجتماعية سيئة "أسود السيناريوهات اللي عمري ما تخيلتها"، إلا أن ما يحدث جعله مُتمسكًا بالحياة في البلاد عما قبل الثورة حيث كان يخطط للسفر فور انتهاء دراسته الثانوية، لكنه أصبح مُصِراً على المُحاربة من أجل ما بدأه وهو مراهقًا ليستكمله وهو شابًا يحلم بغدٍ أفضل "لسه مؤمن بالثورة، وشايف إنها جاية تاني أصل مش معنى إن الماية مبتغليش إنها مش سخنة".
هاجر.. مراهقة أنضجتها الثورة مبكرا
لم يختلف حال هاجر عن محمود كثيرًا، فالفتاة تعتبر 25 يناير 2011. تاريخٌ تحولت بعده من فتاة في الثالثة عشر من عمرها تقضي أغلب وقتها بين استذكار دروسها وممارسة رياضتها المفضلة إلى شابة ثورية جسورة.. أنضجتها الثورة قبل الأوان فصارت تتوسط الميدان وتهتف ضد حُكمٍ سقطت شرعيته بالنسبة لها، بينما تعد الطعام للمتظاهرين رفقة بعض السيدات خلف مسجد عُمر مكرم.
ثمانية عشر يومًا قضتها "هاجر" بالميدان برفقة عائلتها في بعض الأوقات، أو وحدها برفقة عائلات صديقة لأهلها في أحيانٍ أخرى. لم تبرح مكانها قط، قضت الثورة في الميدان وهى تهتف كأى شابٍ وفتاة يحلمون بتغير واقعٍ سيء، ورغم صِغر سنها إلا أنها لم تكن المرة الأولى التى تشارك فيها بالمظاهرات أو الوقفات الاحتجاجية لتُندد بما تريد تغيره. فالصغيرة صاحبة الثلاثة عشر عامًا تربت في منزلٍ السياسة قوام حديثه اليومي، وشاركت مع والدها في العديد من الوقفات الاحتجاجية أمام نقابة الاطباء للتنديد بما يحدث في غزة، فغرست تلك المواقف بذرة الثورية بنفسها لتُزيد رجاحة عقلها.
"الثورة غيرت حياة الناس اللي نزلت واللي منزلتش" قالتها هاجر وهى تشرح مكتسبات الثورة الضئيلة، مُستطردة: "لم تقتصر مكتسبات الثورة على تنحى الرئيس السابق والذي لم تتحق دونه أى مطالب أخرى، لكن الثورة علمتني ما لن أنساه أبدًا".
تحولت من طفلة صغيرة -في ثمانية عشر يومًا فقط- إلى شابة يافعة تزن الأمور وتُقيّم المُعطيات والنتائج. تغيرت طريقة تفكيرها وقدرت هبة الحياة بينما زادت النقمة بداخلها على القمع والحُرية المُزيفة التي ترى أن الحُكام يمنحون جُزءً منها للشعوب ليضمنون بقائهم في سُدة الحكم.
التعاون أيضًا هو إحدى السمات الهامة التى اكتسبتها الفتاة الصغيرة آنذاك: "كنت بحس إني مسؤولة عن الناس وأنا بعملهم الأكل، وحسيت بقيمة إننا نتجمع عشان هدف واحد أكبر مننا كلنا".
"حاولنا، بس فشلنا ومحافظناش عليها" بهذه الكلمات لخصت هاجر 6 سنوات كاملة على ذكرى الثورة التى ترى أنها فشلت ليس لعيبٍ فيها ولكن لأن"العيب في الناس". فلم يبق للفتاة التي أصبحت شابة الآن من هذة الأيام سوى حُلم مُهترئ لا يثمن ولا يغني من جوع، صداقات كونتها على مَرّ ثمانية عشر يومًا امتدت صلتها بأصحابها لسنواتٍ، وجرأة اكتسبتها مكنتها أن تقول "لا" بصوتٍ مُرتفع في وجه كُل ما ترفضه.
ورغم ذلك فالغَصةٌ لا تزول من حَلقها كُلما ذكر أحدهم أمامها كلمة "ثورة"، تلك التى لا تستشعرها إلا حينما تمر بميدان التحرير الذي يُذكرها دومًا بما تنوي أن ترويه لأبنائها وتُخلده في نفوسهم "هقولهم الثورة دي أحسن حاجة حصلت في مصر، أنضف حاجة في عمرنا كله".
فيديو قد يعجبك: