لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

دستور فاطمة الأخلاقي.. تخدم الأقصى وتداوي جروح اليهود "الحلقة الخامسة"

09:28 ص الإثنين 30 مارس 2015

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي وإشراق أحمد:

في الحلقة السابقة: خروج فاطمة من السجن، ذكريات مصورة للنضال والإنسانية..
مرافقة محسنة توفيق إلى السودان والغناء لأهالي صبرا وشتيلا

سنة 1952 استقرت الأم -ذو الأصول الأردنية- وابنائها ثانية في القدس بعد شتات الأردن، بقي الاحتلال جاثما والأم تحمل وافدًا جديدًا يظهر جليا في تضاريس بطنها، ينظر قِبله الأب ثم يوجه نظره للسماء "إني نذرته لك يا الله لخدمة بيتك المقدس"، خلال الولادة كانت الأم تعاني آلام الوضع، تصرخ والجميع يهرع لإنقاذها، وفي عملية قيصرية كادت تفقد الأم حياتها وراح على أثرها الطفل في عداد الراحلين، ذرفت عين الزوج بدمعة، تبعها صمت مطبق، تلاه وعد آخر "لديا نذر ولابد من الوفاء"، فكانت فاطمة البرناوي هي خادمة المسجد الأقصى ومن بعده.. بطلة القضية الفلسطينية وفخر بلادها.

برفقة الوالد كانت "فاطمة" تنعم بالحياة، غير أن الوضع المالي كان سيئا، فأرادت ابنة الخامسة عشر أن تساعد الأب المناضل، فوافقت على العمل لدى مستشفى الهلال الأحمر، بعد اقتراح إحدى السيدات "قالت لوالدي خليها تعطي إبر وتتعلم"، ظلت المناضلة عامين بالمستشفى، حتى عرفت أصول التمريض، فإذا بحاجة مستشفى لبناني موجود بالمملكة العربية السعودية، إلى ممرضات للعمل به، فقررت خوض التجربة.

ربما أكثر ما تذكره المناضلة عن العامين اللذان قضتهما بالمشفى اللبناني، أنه ليس ثمة فرق بين مسلم ومسيحي "كان هناك مديرين في المستشفى.. واحد مسلم والثاني مسيحي"، ذابت الاختلافات العرقية والدينية تحت وطأة التقارب الإنساني، يبدو ذلك جليا في لحظات الود "كنا في رمضان أنا الوحيدة المسلمة بين الطقم وكان مدير المستشفى يمنع الأكل قدامي لحد ما ييجي الإفطار مراعاة لشعوري"، في تلك الفترة كانت "فاطمة" تتعلم في المدرسة بالمرحلة الإعدادية، ثم التحقت بمدرسة للتمريض لتصبح مهنتها فيما بعد.

في السعودية كان اللقاء لأول مرة بالعمة، الأخت الوحيدة لأبيها والتي لم يرها منذ كانوا صغارا، فرقت بينهم الحرب والظروف، لكن صبية آل البرناوي أبت أن تكون على نفس الأرض دون أن تلتقيها، ذهبت وبحثت عنها، كانت بمكان يعيش فيه الأفارقة، في تلك الأثناء كان الوالد يعمل بالقدس ليوفي قوت الأبناء الآخرين، والأم المريضة بالسكري "كان شغال في الكانتين بيبيع شاي ومشروبات فلسطينية زي الحمص: كان مهتم بالهوية الفلسطينية حتى في شغله البسيط".

طوال حياتها منذ مولدها في 12 أغسطس 1939 وتعترف "فاطمة" بجميل الأب عليها، تربيته إياها على الشجاعة، تعامله بحنكة وصدر واسع مع تهورها، واحتضانها بالأوقات العصيبة، لذلك لم تفوت المناضلة الفرصة لرد جزء صغير من الفضل؛ عام 1982 اصطحبت الوالد إلى السعودية، حيث تمكث أخته، ليراها أخيرا.
لم تسعَ المفاجأة الأخت الملتاعة حين رأت والد "فاطمة"، نظرت إليه قليلا، تُملّي العينين المشتاقتين، احتضنته، ثم تأبطت ذراعه قبل أن ينطق بكلمة، راحت تلف على البيوت كلها، تطرق الأبواب، تصرخ بفرح "أخوي ابن امي وأبوي جه"، ثم سقطت مغشيا عليها من هول مفاجأة اللقاء المؤجل لأكثر من 35 عاما.

انتهت فترة العمل بالسعودية حين قررت "فاطمة" الذهاب إلى مدينة قلقيلية الفلسطينية للعمل بها كممرضة "كنت بختار أماكن النزاع وأحاول أساعد فيها"، عملت مع وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين، كانت المدينة التي تبعد عن القدس ثلاث ساعات بالسيارة، مُهدمة بفعل الاحتلال، خاصة بعد عدوان 1956، غير أن المعتدين لم يكفوا يدهم عنها في الأعوام التالية.

كان ثمة شك من قِبل الاحتلال عام 1967 في النشاط السياسي للمناضلة، فاستدعاها الحاكم العسكري للتحقيق معها، لم تعرف أنها ستجد عند عودتها المستشفى التي قضت فيه أعواما قد نُهب من قبل الجنود "ما خلوا شي.. الأدوية والصيدليات والمخازن"، لاحقها ظلم المحتل أينما ولت وجهها، حملت في صدرها النار، ولم تقل شيئا، لكنها احتفظت بحق الانتقام عندما يأتي الوقت المناسب، ومع ذلك لم تُعمِها يوما مشاعر الظلم وكره المحتل، فكل حدث له ميزان الحكم عليه.
   
الإنسانية أحق أن تتبع
في خضم حرب 1967 كان العدو الإسرائيلي لا يرحم، يستبيح النساء ويقتل الأطفال، ينهش في جسد العروبة بلا كلل، يعربد في شوارع فلسطين فيزيد من نهب تراثه وأرضه شبرا تلو الآخر، وبينما كانت "فاطمة" تجري على غير نسق داخل مستشفى بـ"قلقيلية"، متلهفة لإنقاذ الأرواح البريئة، دخل عليها عدد من الإسرائيليين بزي مدني يحملون جريحا يحتاج لحقنة تنقذ حياته، سقط من خصره مسدس، انكشف أمرهم كجنود مسلحين تخفوا في زي بديل، ظنوا أن "فاطمة" لن تستجيب، غير أنهم لا يعلمون أن الإنسانية لديها أبقى.

هرعت الخالة لإعطائه الدواء دون أن تنبس بكلمة "هذا عمل إنساني مفصول بالأساس عن أزماتنا الأخرى.. هما أعداء وجها لوجه، لكننا لا نقتل مريضا أو أسيرا، لا نفكر في لحظات مثل تلك عن ردة فعلهم لو تبدل الحال وكنا تحت أيديهم.. أنا ممرضة، ملاك رحمة.. واجبي الإنساني يحتم عليا احترام المريض" بكلمات فصحى تتفوه المرأة السبعينية بفخر؛ كي توثق دستورها الأخلاقي.

ما واجهت سيدة الأسيرات موقفا إلا وتركت به بصمتها، متجاوزة أي شعور تعصب إلا لمبادئها والأرض؛ داخل مستشفى "قلقيلية" دلف أحد المناضلين الفلسطينيين، تلفت يمنة ويسرة قبل أن يجري هربا من جنود الاحتلال، علمت "فاطمة" بالأمر، كان الشاب أحد الناشطين لنصرة فلسطين في مصر، وشهرته وصلت إليها، اختبئ المناضل أسفل سرير، كانت المستشفى معدمة بعد نهبها من قبل الجنود خلال حرب 67، حتى من ملابس المرضى، انكفأت "فاطمة" أرضا كي تطمئنه، ففزعت شقيقته وهي تغطي قدما الممرضة بقطعة قماش بالية، حرجا من تنورتها القصيرة، فما كان من "فاطمة" إلا أن نهرتها وهي تقول "أرضنا محتلة وجاية تغطي شبر من رجلي".

مع كُل منزل يُعاد بناءه في المدينة الجميلة- التي يرجع تاريخها إلى العصر الروماني- كانت روح "فاطمة" تُرد لها "كنت ببني نفسي زي البيوت اللي بترجع تاني بعد الدمار"، سكان قلقيلية تعاملوا مع الفتاة العشرينية كأنها منهم "حتى اليهود لما سجنوني كانوا بيعتبروني من أهل قلقيلية"، الخراب ظل متفشيا، كلما أراد أصحاب المدينة أن يعيدوها كما كانت، يحطم جيش الاحتلال ما فعلوه، كرروا الجريمة عام 1963، 1965 قلقيلية مدينة زراعية بالأساس، تعج أرضها بالحمضيات على اختلافها، لهذا عهد الاحتلال إلى تجفيفها، تحطيم آبار المياه، ودك المزارع ومحطات البنزين التي تشغل مخازن المياه.

تشتعل "فاطمة" غضبا حال تذكر تلك الأيام، كما تستاء عندما يلمح لها أحدهم أن نضالها لا ينفي كونها نيجيرية الأصل، لا تتركه يكمل الجملة عادة، تقاطعه بحدة "أحمل جواز سفر نيجيري وجنسية فلسطينية"، تحكي عن شعورها بالفخر لأنها حافظت على اسم عائلة البرناوي، وهو اسم نيجيري "لكن لو لقيت حد يبدل الاسم بفلسطيني أوافق فورًا"، تقولها وهي تقهقه كطفلة لم تتخط الخامسة من العمر.

الحلقات السابقة:

فاطمة تزلزل إسرائيل بحقيبة يد وأغنية لأم كلثوم.. "الحلقة الأولى"

كيف هزمت ابنة البرناوي إسرائيل بحذاء الكعب العالي؟ "الحلقة الثانية"

"التنكيد" على إسرائيل "فن" تعرفه فاطمة البرناوي.. "الحلقة الثالثة" 

منزل فاطمة.. كوكب مصغر للإنسانية "الحلقة الرابعة"

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج