فوز ماكرون ـ إنذار قبل اكتساح وشيك لليمين المتطرف؟
(دويتشه فيله):
فوز الرئيس إيمانويل ماكرون بشق الأنفس على مارين لوبان جعل أوروبا تتنفس الصعداء. لكن هذه النتيجة جرس إنذار للقادم من الأيام، إذ اقترب اليمين المتطرف أكثر من أي وقت مضى من أبواب الإليزيه وفق معلقين ألمان وأوروبيين.
صورة تركيبية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبان
هل سينقذ ماكرون أغلبيته البرلمانية في الانتخابات التشريعية المقبلة أم عليه التعايش مع رئيس وزراء من المعارضة؟
أجمع المعلقون الألمان والأوروبيون على أن فوزإيمانويل ماكرون بفترة رئاسية ثانية يحمل في طياته قرع أجراس مدوية بسبب الاكتساح الهائل لأطروحات اليمين المتطرف للمشهد السياسي الفرنسي.
كما أن الولاية الثانية لماكرون لن تكون مفروشة بالورود أمام بلد منقسم يتخبط وسط غليان اجتماعي غير مسبوق. ماكرون التقط إشارة الناخبين بسرعة واعترف في خطاب النصر، غير بعيد عن برج إيفل، بأن الكثيرين صوتوا له، ليس لأنهم يؤيدون سياسته، ولكنهم فعلوا ذلك لمنع اليمين المتطرف من دخول قصر الإليزيه. ولن يكون لماكرون متسع من الوقت للتمتع بنشوة الانتصار، ذلك أن استحقاقا آخر لا يقل أهمية ينتظره خلال أسابيع يتعلق بالانتخابات التشريعية في يونيو، والتي ستحدد ما إذا كانت ولايته الثانية ستكون مدعومة بأغلبية برلمانية أم أنه سيضطر للتعايش مع المعارضة في الحكومة المقبلة. غير أن هذا الاقتراع الرئاسي يطرح أيضا أكثر من علامة استفهام حول مستقبل النموذج الديموقراطي الفرنسي.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" الألمانية (26 أبريل 2022) معتبرة أنه لا يجب استصغار ما أنجزه الرئيس الفرنسي، وكتبت معلقة "حقق إيمانويل ماكرون ما لا يمكن تصوره تقريبًا. لأول مرة منذ عشرين عاما، فاز رئيس بثقة الناخبين الفرنسيين لولاية ثانية. قبلها، نجح جاك شيراك، أيضًا بعد مبارزة ضد لوبان (الأب). وهكذا عزز ماكرون سمعته كاستثناء سياسي. ومنذ إقرار الانتخابات المباشرة، لم ينجح أي من أسلافه في القيام بذلك". ويذكر أن ماكرون فاز بنسبة 58 بالمائة متقدما على غريمته مارين لوبان بخمسة ملايين صوت فقط، بعدما كان هذا الفارق يقارب عشرة ملايين صوت قبل خمس سنوات، ما يؤكد الاكتساح المطرد لليمين المتطرف، الذي اقترب من عرش الإليزيه أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث للجمهورية الفرنسية.
لم تكن دوائر صنع القرار في برلينكما في بروكسيل في وضع يسمح لها بتصور فوز اليمين المتطرف في فرنسا، في وقت تواجه فيه أوروبا أكبر تحدٍ جيوسياسي منذ الحرب العالمية الثانية بسبب الحرب في أوكرانيا. سيناريو من هذا النوع كان سيكون ضربة قوية للوحدة الأوروبية أمام موسكو. ورغم أن التدخل في مسار الحملات الانتخابية للدول الأعضاء كان من باب تابوهات ومحرمات التكتل الأوروبي، إلا أن كابوس فوز لوبان دفع بشكل استثنائي كلا من المستشار الألماني أولاف شولتس ونظراءه في إسبانيا والبرتغال لتجاهل هذا التقليد، بعد نشرهم لنداء مشترك على صفحات جريدة "لوموند" الفرنسية قالوا فيه للفرنسيين إن "مرشحا من اليمين المتطرف يظهر تضامنًا علنيًا مع أولئك الذين يهاجمون حريتنا وديمقراطيتنا". وإذا كان من الصعب تقييم تأثير مثل هكذا نداء، إلا أن الخطوة تظهر ارتباك وقلق الأوروبيين أمام سيناريو، إذا ستحقق ستكون له ارتدادات غير مسبوقة على البنيان الأوروبي برمته.
وبهذا الصدد كتب موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى (23 أبريل/ نيسان) معلقا "تخشى المعاهد والمؤسسات الفكرية الخاصة بالسياسة الأوروبية من أن يتعرض التكتل القاري لاختبار إجهاد حاد. وفق ما يراه يان فيرنرت، خبير العلاقات الفرنسية الألمانية في مركز جاك ديلور، معتبرا أن بوتين كان "سيكون له بالتأكيد حليف في وسط أوروبا لو تمكنت لوبان من أن تصبح رئيسة لفرنسا". فقد حافظ كل منهما على اتصالات وثيقة على مدى سنوات، كما سبق لبوتين أن استقبل مارين لوبان مرارًا وتكرارًا باحتفاء كبير في موسكو. و قد دافعت الأخيرة عن المسار الروسي ونفت الغزو العسكري لشبه جزيرة القرم ووافقت لاحقًا على الضم. واليوم لا تتحدث لوبان عن الحرب العدوانية الروسية، مكتفية بوصفها بـ"الحرب الروسية الأوكرانية" في تعبير يبدو أكثر حيادية.
حينما ظهر ماكرون أمام عدسات الكاميرات ليلة الفوز بالقرب من برج إيفل، حرص ألا يبدو بمظهر الفائز المبتهج الواثق في نفسه، واجتهد كي يبدو متواضعا، وهو الذي يتهمه خصومه عادة بالغطرسة. ووجه رسالة واقعية للفرنسيين بشأن المهام الصعبة التي تنتظره خلال السنوات الخمس المقبلة، متوجها بشكل خاص إلى الناخبين الذين لم يصوتوا له. وقال ماكرون إنه يجب أن تكون هناك "إجابات" على "غضبهم وآرائهم المخالفة". وشدد قائلا: "أنا رئيس الجميع". ووعد بأنه سيعامل كل الفرنسيين على قدم المساواة "علينا أيضًا أن نكون خيرين ومحترمين (..) لأن بلادنا يسودها الشك والانقسام. يجب أن نكون أقوياء، لكن لا أحد سيترك على جانب الطريق".
كما حصل ماكرون الليبرالي التوجه، على أصوات ناخبين لا يدعمون سياساته، لكنهم أرادوا الحيلولة دون فوز اليمين المتطرف. وتوجه لهم ماكرون قائلا "أدرك أن هذه الأصوات تلزمني خلال السنوات القليلة المقبلة". صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية (25 أبريل) ذهبت إلى القول بأن انتصار ماكرون يبعث على الارتياح، غير أنها لاحظت أنه "بعد خمس سنوات من ولايته الأولى، لم ينجح في تهميش الشعبوية اليسارية واليمينية على حد سواء. على العكس من ذلك، فقد حصل خلال الجولة الأولى من الاقتراع الرئاسي على 28 بالمائة من الأصوات مقابل أكثر من 52 بالمائة لصالح الشعبويين".
أبدت العديد من المنظمات اليهودية ارتياحها بشأن نتيجة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فقد أكدت منظمة "كريف" وهي هيئة تمثل يهود فرنسا، ارتياحها معتبرة أن الحزب الذي تتزعمه لوبان لا يمثل قيم المجتمع الفرنسي، موضحة أن "حرياتنا الفردية، وتنوعنا المجتمعي، وتقاليدنا واستقرار بلدنا على المحك". ويذكر أن عددا من الشخصيات والتنظيمات اليهودية الفرنسية قد سبق وأن دعت قبيل وأثناء الحملة الانتخابية للحيلولة دون وصول اليمين المتطرف للإليزيه. صحيفة "يوديشه ألغماينه" الألمانية (26 أبريل) استشهدت بتصريح لفرانسيس كاليفا، رئيس منظمة "كريف" أكد فيه أن فوز ماكرون جيد ليهود فرنسا، غير أنه عبر في الوقت ذاته عن قلقه من عدد الأصوات التي حصلت عليها لوبان"سيتعين علينا إيجاد السبل والوسائل لتقليل هذا التهديد الشعبوي، سواء جاء من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار".
وإضافة إلى "كريف" حذرت بدورها "كونسيستوار سونترال"، وهي هيئة تضم جميع التنظيمات اليهودية في فرنسا ومعترف بها من قبل الدولة الفرنسية، من الخطر الذي تمثله لوبان. وأكد رئيس الهيئة إيلي كورشيا في تصريح لصحيفة "لوموند" الفرنسية أن ترشح اليهودي إريك زمور باسم اليمين المتطرف ساعد في تعزيز قوة لوبان، واستطرد كورشيا، وفقا لـ"يوديشه ألغماينه"، أن زمور تجاوزها من حيث التشدد اليميني، ما جعلها تبدو مرشحة معتدلة. من جهته، هنأ رئيس المؤتمر الحاخامي الأوروبي بينشاس غولدشميت إيمانويل ماكرون على إعادة انتخابه، لكنه أعرب بدوره عن قلقه من القوة المتنامية لليمين المتطرف. وغرد غولدشميت على تويتر "حقيقة أن أكثر من أربعين في المائة من الناخبين اختاروا مرشحًا يمينيًا يعتبر أمرا مقلقا". صحيفة "يوديشه ألغماينه" أوردت أيضا رد فعل رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، رونالد س. لاودر الذي أعرب عن "سروره العميق" بشأن "نصر مهم". ماكرون، وفقًا للاودر "أثبت أنه مدافع قوي عن كل ما هو لائق في عالمنا المضطرب". كما عمل ماكرون أيضًا على محاربة العداء للسامية وفق لاودر.
رغم هزيمتها، ألقت مارين لوبان عشية إعلان نتائج الانتخابات خطابا لا يخلو من لهجة التحدي، وتعهدت لأنصارها بتشكيل تكتل معارض قوي لماكرون. أما جون لوك ميلونشون مرشح اليسار المتشدد فيسعى لتحقيق إنجاز في الانتخابات التشريعية المقبلة، وبات يحلم بالاستفادة من الزخم الحالي ويصبح رئيسا للوزراء، خصوصا وأنه حصل على الجزء الأكبر من أصوات اليسار في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وفي حال تحقق هذا السيناريو فإن ماكرون سيكون مجبرا على قبوله بصفته زعيما لأغلبية يسارية في البرلمان، وهوما يسميه الفرنسيون بـ"كوابيتاسيون" أي تعايش الرئيس مع أغلبية برلمانية لا تنتمي لمعسكره السياسي.
وحتى في حال تمكن حلفاء ماكرون من الفوز بالأغلبية أو نجحوا في تشكيل ائتلاف حكومي، سيتعين على الرئيس مواجهة رفض شعبي لخططه الإصلاحية، لا سيما إصلاح نظام التقاعد. وبهذا الصدد كتب موقع "شبيغل أونلاين" الألماني (25 أبريل) محذرا "انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) ستتم في غضون خمسين يومًا، وهي الاختبار التالي الذي ينتظر الفائز إيمانويل ماكرون. إن المعارضة تستعد للانتقام، وخاصة مارين لوبان". وذهبت صحيفة "التايمز" البريطانية (26 أبريل) في نفس الاتجاه وكتبت أن "ماكرون يحتاج إلى أغلبية في الجمعية الوطنية في يونيو. وهي محطة ستكون حاسمة بالنسبة له للحصول على تفويض حقيقي لتنفيذ سياساته من خلال المؤسسة التشريعية".
إرهاصات نهاية الجمهورية الخامسة؟
تشرذم المشهد السياسي الفرنسي والسياق الذي صاحب إعادة انتخاب ماكرون قد يكونان مؤشرين على بداية نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة، إذ بات الشعبويون من أقصى اليمين واليسار يتربصون لإطلاق رصاصة الرحمة عليها. ووفق عدد من المعلقين، لا يبعث الوضع السياسي الحالي في فرنسا على الارتياح، فقد هاجم جون لوك ميلونشون ماكرون ليلة فوزه معتبرا أنه "الرئيس الذي حقق أسوأ نتيجة تم انتخابه على الإطلاق". وهدد بأنه بعد الانتخابات النيابية سيسعى لأن يصبح رئيسا للوزراء. كما يسعى اليمين المتطرف بدوره لتغيير "النظام" ويشترك التياران في عدد من النقاط منها: رغبتهما في مغادرة حلف الناتو وانتقادهما الشديد للاتحاد الأوروبي إضافة إلى قربهما من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وميلهما لمعاداة أمريكا والعولمة الرأسمالية. ومن المفارقات أن ميلونشون يرى في إريك زمور ومارين لوبان ممثلين لـ"الفاشية". فيما يرى اليمين المتطرف في زعيم اليسار المتشدد ممثلا لـ"الفاشية الإسلامية اليسارية" المدافع عن المثليين والمهاجرين.
موقع "دي فيلت فوخه" الألماني (26 أبريل) كتب بهذا الصدد موضحا أن "المشهد السياسي في فرنسا يبدو في حالة من الفوضى. لا أحد يستطيع التشكيك في شرعية ماكرون. لكن لا جدال في أن الفرنسيين لا يريدون منحه أغلبية في البرلمان". وأضاف الموقع أن دستور الجمهورية الخامسة "يسمح بالحكم في حالة من الفوضى" بمعنى التعايش بين شرعية الرئيس وأغلبية برلمانية معارضة. لكن هل ستؤسس هذه الفوضى، إذا تحققت، لتغيير جذري للنظام السياسي الفرنسي وبالتالي نهاية الجمهورية الخامسة والتأسيس لأخرى سادسة؟
لا يزال حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان يرفض دعوة اليميني المتطرف إريك زمور إلى "اتحاد لليمين" قبل الانتخابات التشريعية المقبلة. ففي ليلة الإعلان عن النتائج، سرد زمور عدد الهزائم المتتالية التي تلقتها مارين لوبان كما والدها جان ماري، وقال بهذا الصدد "هذه هي المرة الثامنة التي يتعرض فيها اسم لوبان للهزيمة (..) كنت أرى هذه الهزيمة قادمة منذ سنوات". ولذلك كرر زمور دعوته لتوحيد اليمين المتطرف قبيل الانتخابات التشريعية. ويذكر أن زمور حصل على 7,07 بالمائة من أصوات الناخبين خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في العاشر من أبريل الجاري. غير أن حزب لوبان استبعد الذهاب إلى ما يسعى إليه زمور، وقال سيباستيان شينو العضو البارز في الحزب "زمور يدعو لتوحيد اليمين، بينما نحن مع توحيد وطني كبير يتجاوز اليسار واليمين، لأن هؤلاء اليسار واليمين هي مفاهيم غير فعالة ولم تعد تعمل".
ويعتقد على نطاق واسع في الإعلام الفرنسي أن موقف لوبان من زمور هو جزء من استراتيجية سياسية تعمل على تمييزها عن تطرف زمور، ويجعلها تبدو أكثر اعتدالا بالاستفادة من زخم الانتخابات الرئاسية؛ وتكريس الانقسام بين "القوميين" وحلفاء الرئيس ماكرون المتهمين بـ"العولمة". صحيفة "ألغوير تسايتونغ" الألمانية (25 أبريل) كتبت معلقة "حاليا، نجت فرنسا وأوروبا من تفادي مطبات زلزال سياسي. لكن فوز ماكرون الذي شد الأعصاب، يجب أن يكون بمثابة إنذار له، وهو الذي أضعف الأحزاب المعتدلة لدرجة أن المتطرفين فقط هم من بقوا بجانبه وبشكل أقوى من أي وقت مضى. لقد تغذوا على الإحباط من سياسته المتسرعة، والتي تهدف إلى الكفاءة ولكنها لم تأخذ الناس معها. وإذا أراد منع أن يخلفه شعبوي في الرئاسة المقبلة في غضون خمس سنوات يجب عليه تغيير أسلوبه في الحكم وإشراك البرلمان ومناقشة القرارات. يجب عليه أخيرًا أن يفي بوعده منذ عام 2017 عندما وعد الفرنسيين بأنهم سيثقون مرة أخرى في العمل السياسي".
فيديو قد يعجبك: