مرسيليا تراجع "قصصها" مع الجزائر
باريس- (أ ف ب):
قبل ستين عاما، وصل الى ميناء مدينة مرسيليا في جنوب فرنسا، آلاف العمال الجزائريين ثم الفرنسيين العائدين من الجزائر بعد استقلالها، وتحمل المدينة اليوم قصصا فرنسية جزائرية متعدّدة وفي كثير من الأحيان مؤلمة بدأت بمراجعتها.
وتقول سامية شباني، مديرة مركز "أنكراج" (Ancrages) للأبحاث حول تاريخ الهجرة وذاكرتها في مرسيليا، ثاني أكبر مدن فرنسا، إن التقديرات "تشير إلى أنه من بين أكثر من 800 ألف من سكان المدينة، هناك ما يقرب من 200 ألف معنيون بشكل مباشر أو غير مباشر بالجزائر".
ومن بين هؤلاء، "الأقدام السوداء"، وهم الأوروبيون المتحدرون من فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا الذين عاشوا في الجزائر لأجيال وتمّ ترحيلهم بشكل طارىء وغالبا مؤلم، بعد حرب تسببت في مقتل ما يقرب من 500 ألف مدني وعسكري، بينهم نحو 400 ألف جزائري، بحسب المؤرخين.
وبينهم أيضا الحركيون، وهم الجزائريون الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي، وأبناء مرسيليا الذين قاتلوا في الجزائر، وكذلك مهاجرون جزائريون بعضهم ناضل من أجل الاستقلال، وأحفاد كل هؤلاء.
وشهدت الأحياء الكبرى في مرسيليا التي بنيت على عجل في سنوات 1960، مرور بعض هؤلاء السكان المتأرجحين بين البلدين.
ويوجد كذلك الجزائريون الفارون من "العشرية السوداء" (1992-2002)، أو طلاب... وكل أسبوع، تُذكّر بواخر المسافرين البيضاء التي تربط مرسيليا بالجزائر العاصمة، بالروابط التي لا تزال قوية بين المدينتين المطلتين على البحر الأبيض المتوسط.
وتقول المؤرخة كريمة ديرش المتخصصة في الجزائر في المركز الوطني للبحوث العلمية بفرنسا، إنه عندما يتعلق الأمر بإثارة حرب الجزائر وأكثر من 130 عامًا من الاستعمار، تظل الذكريات "مجزأة الى فئات". وهناك نصب تذكاري للمرحّلين في مرسيليا، لكن لا نصب تذكاريا يخلق إجماعًا بين الذاكرات الجريحة.
مع ذلك، يعمل البعض في مرسيليا على خلق حوار بين القصص التاريخية المتعدّدة.
من هؤلاء جاك برادل، رئيس الجمعية الوطنية للأقدام السوداء التقدميين التي تُحيي كل سنة، مع جمعية "أنكراج" وجمعيات الشتات الجزائري والمناهضة للعنصرية، ذكرى اتفاقيات إيفيان. وهي خطوة غير عادية، بما أن العديد من الأقدام السوداء يرفضون إحياء ذكرى هذه الاتفاقيات التي يعتبرونها فترة مظلمة في حياتهم.
ولد جاك برادل في تيارت في شمال غرب الجزائر، ونشأ في "عائلة من المستوطنين الفرنسيين، وهي بيئة تتمتع بامتيازات"، ولو أن جدّه الذي وصل في القرن التاسع عشر الى الجزائر كان "فلاحًا صغيرًا من منطقة تارن انتقل الى الجزائر هربا من البؤس".
ويقول برادل (متقاعد) لوكالة فرانس برس "بما ان والديّ كانا مناهضين متشددين للعنصرية، ساعدني ذلك على أن أفتح عينيّ على واقع" النظام الاستعماري. لما بلغ 18 سنة، غادر إلى فرنسا لتجنب إلحاقه بالقوة ب"منظمة الجيش السري" التي كانت تقاتل ضد استقلال الجزائر. ثم لحق به والداه.
"مصالحة صادقة"
ورغم الجراح والمنفى وفقدان صديق الطفولة الجزائري الذي ابتعد عنه أثناء الحرب، فهو يناضل من أجل مصالحة "صادقة ودائمة" بين البلدين. ومكتبته مليئة بالكتب عن الجزائر بينها عدد كبير لمؤلفين جزائريين معاصرين.
وتمر المصالحة، بالنسبة اليه، من خلال نشر "العمل الهائل للمؤرخين" في المجتمع، مشيرا الى أنه يؤيد إقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن الاستعمار كان "همجية حقيقية".
وتروي جمعية "أنكراج" قصصا غالبا منسية، لجزائريين في مرسيليا. مثل أولئك العمال الذين تم توظيفهم بكثافة في مصانع المنطقة، فأعادوا بناء حياتهم في شوارع حي بيلسونس الضيقة.
وتتحدث سامية شباني عن "مقهى شمال إفريقيا الذي كان يشكّل مكانا للتواصل الاجتماعي والتعبير الموسيقي، ولكن كان يتم فيه أيضا تنظيم التظاهرات للمطالبة بالاستقلال"، داعمة كلامها بالإشارة إلى واجهة المحل المقفل اليوم.
وتضيف أنه خلال الحرب كانت "هذه المقاهي تخضع للرقابة الشديدة من الشرطة الفرنسية وتم اعتقال بعض المهاجرين".
ونفّذت المخرجة فاطمة سيساني المقيمة في مرسيليا، فيلما وثائقيا عن النساء اللواتي انخرطن في جبهة التحرير الوطني، من أجل فهم تاريخ حرب رفض والداها المهاجران الى فرنسا، الحديث عنها.
في مايو الماضي، أطلقت مرسيليا اسم أحمد ليتيم، وهو جندي جزائري شارك في تحرير المدينة من النازيين عام 1944، على مدرسة كانت سابقًا تحمل اسم بوجو، أحد قادة الحملة الاستعمارية. لكن لا أثر لأي لافتة بالاسم الجديد على واجهة المدرسة حتى منتصف فبراير.
وكان رئيس البلدية بونوا بايان دافع عن هذا التغيير قائلا "لا يمكن للمدرسة أن تمجّد جلاّدا في الحروب الاستعمارية. لا يمكننا تفسير ذلك أو تبريره لأطفالنا".
وكان لفضيلة، ابنة مرسيليا، جدّ جزائري قاتل مع فرنسا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وتودّ أن تكون الروايات التاريخية معروفة بشكل أفضل.
ورفضت ذكر اسم عائلتها لأن مسألة حرب الجزائر لا تزال حساسة، لكنها تأمل أن تلتئم الجراح يوماً ما، "لأن فرنسا والجزائر مرتبطان".
هذا المحتوى من
فيديو قد يعجبك: