بريطانيا حجبت عن الأردن معلومات مهمة عن معاناة الفلسطينيين من تأثير الاستيطان على الموارد المائية
لندن- (بي بي سي):
تلقى سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية إدانات دولية وأممية منذ سنوات طويلة. غير إن إسرائيل تصر على مواصلتها بدعوى أنها توفر امتدادا طبيعيا لليهود الذين يحق لهم الهجرة إليها من أنحاء العالم.
لم يغب ملف المياه في الأراضي الفلسطينية عن اهتمام بريطانيا منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية في حرب عام 1967، كما تكشف وثائق بريطانية.
وحسب الوثائق، فإن البريطانيين تابعوا بدقة خطط إسرائيل لاستغلال مياه الضفة، البالغ مساحتها 3500 كيلومترا مربعا، لخدمة مشروع الاستيطان غير الشرعي على حساب الفلسطينيين.
وحجبت بريطانيا معلومات مهمة، عن معاناة الفلسطينيين، عن الأردن الذي سعى بعد 11 عاما من الاحتلال لبحث مشكلة المياه في الضفة الغربية، كما تكشف الوثائق.
وتُرجم الاهتمام البريطاني في شكل "تقرير شامل" أُنجز في شهر يوليو عام 1978 بعنوان "الضفة الغربية: موارد المياه واستغلالها".
رسم التقرير صورة شاملة لوضع المياه في الضفة وأهميتها لإسرائيل وسكانها. وقدَّر حجم مخزون الموارد المائية المحتملة فيها بـ 850 مليون متر مكعب، موزعة على النحو التالي: 600 مليون متر موارد جوفية، 45-50 مليون فائض أمطار وذوبان ثلوج، و200 مليون من نهر الأردن.
وبالنسبة إلى مصادر المياه الرئيسية سواء في المناطق الحضرية أم الريفية فهي: الينابيع والآبار والصهاريج (الخزانات الصناعية).
كانت البلدات والقرى الأكبر تعتمد على شبكات توزيع المياه العادية، غير أن معدي التقرير اكتشفوا أن "مستوى الخدمات لا يزال متدنيا، وليست الخدمات متاحة لغالبية القرى الفلسطينية".
وتوصلوا إلى أن هناك فرقا هائلا في استهلاك الفرد من المياه في إسرائيل مقارنة باستهلاك نظيره الفلسطيني في الضفة.
وقال التقرير إن "الاستهلاك المنزلي يبلغ حوالي 20 مترا مكعبا للفرد (في الضفة) سنويا مقارنة بـ 60 مترا مكعبا للفرد في إسرائيل".
ما الذي تغير بعد الاحتلال؟
بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية في حرب يونيو عام 1967، انتقلت السيطرة على إمدادات المياه من وزارة الأشغال العامة الأردنية إلى "وحدة المياه في الإدارة العسكرية (الإسرائيلية) ليهودا والسامرة"، الاسم اليهودي للضفة الغربية.
وطبقت الوحدة قوانين تتعلق بإمدادات المياه يعود بعضها إلى عهد الانتداب البريطاني على فلسطين.
وكان هذا مصدر المعاناة الرئيسي من مشكلة المياه لأن إسرائيل أصبحت تملك سلطة إصدار تراخيص حفر الآبار في الأرض المحتلة.
قال التقرير "إذا كان للمزارعين الفلسطينيين أن يزيدوا مساحة الأرض المزروعة، فإنهم يحتاجون إلى زيادة مساحة الأرض القابلة للري، الأمر الذي يتطلب حفر آبار جديدة".
غير أن مصادر المعلومات البريطانية أكدت أنه "منذ عام 1967، كُرست معظم خطط تنمية الموارد المائية في الضفة الغربية لتوسيع شبكات المياه في المناطق الحضرية ولتوفير المياه للمستوطنات اليهودية"، التي لا تعترف بريطانيا ولا القوانين والقرارات الدولية بشرعيتها.
وأكد التقرير أنه "لم يُسمح لأي مزارع عربي (فلسطيني) بحفر بئر جديدة بغرض الري، وحتى سلطات البلديات تواجه صعوبات في مسعاها لزيادة إمدادات المياه لتلبية الطلب المتزايد".
في تلك المرحلة، استهدفت سياسة سلطة الاحتلال الإسرائيلية في الضفة استغلال الموارد المائية الموجودة بأقصى قدر قبل اكتشاف وتطوير موارد جديدة.
غير أن هذه السياسة "مارست التمييز ضد المزارعين العرب (الفلسطينيين) القادرين على الحصول على تصريح بحفر آبار جديدة، كما مُنعوا من زيادة استهلاكهم من المياه"، حسب التقرير.
وليس هذا فقط. فالسياسة الإسرائيلية "تضمن ليس فقط توفر مياه كافية للمستوطنات اليهودية، ولكنها تحافظ على نسبة كبيرة من الموارد المائية لإسرائيل نفسها نظرا لأن إسرائيل استغلت معظم المياه الجوفية في حوض خزان المياه الغربي". جغرافيا، يمتد هذا الخزان من المنحدرات الغربية للضفة الغربية، مارا بأجزاء كبيرة من إسرائيل وصولا إلى مناطقها الواقعة شمال شبه جزيرة سيناء.
"مأزق صعب" و"تعاطف ضئيل"
ونظرا لأهمية هذا المورد المائي لإسرائيل، فإن سلطات الاحتلال العسكرية خشيت من أن "الحفر غير المحدود (للآبار) من جانب سكان الضفة الغربية يمكن أن يؤدي إلى نضوب هذا المورد بشكل خطير".
وربط التقرير بين هذا الموقف وخوف إسرائيل من نتائج أي تسوية في المستقبل بين إسرائيل والفلسطينيين.
وانتهى إلى أن "احتمال أن يحدث هذا (النضوب) بعد أي تسوية سياسية بشأن الضفة الغربية هو، كما يقال، المنطق وراء إقامة سلسلة المستوطنات اليهودية على طول الجزء الغربي من السامرة". فهذه المستوطنات "تضمن استمرارسيطرة إسرائيل في المنطقة".
ووفقا لهذا التقييم، خلص البريطانيون إلى أن الإسرائيليين يكنون "تعاطفا ضئيلا مع مأزق المزارعين العرب (الفلسطينيين) الصعب".
ونقل التقرير عن الإسرائيليين المجادلة بأنه "لو اتبع سكان الضفة الغربية وسائل الزراعة الإسرائيلية، فإن المنطقة المروية يمكن أن تتضاعف على أقل تقدير".
لم تكن القيود الإسرائيلية على حفر الفلسطينيين آبارا جديدة المشكلة الوحيدة.
فالفلسطينيون "يساورهم قلق من الطلب المتزايد على المياه الناتج عن تنمية المستوطنات اليهودية، خاصة الزراعية منها في غور الأردن". وهذه المستوطنات "في تنافس مباشر مع المزارعين العرب (الفلسطينيين) على الموارد المائية المحدودة في الضفة الغربية".
وأدى كل هذا إلى "تردي الوضع المائي لسكان الضفة"، ولا سيما في ظل تعسف سياسة إسرائيل بشأن الآبار.
وقال التقرير "إن الحظر على حفر الآبار"العربية" ومصادرة الآبار التي تخص الملاك الغائبين (أي الذين هُجروا من ديارهم إلى خارج فلسطين) يعني أن المياه المتاحة لزراعة العرب (الفلسطينيين) ظلت عند الكمية التي كانت متاحة في عام 1967 أو قلت".
ومضى التقرير لينبه إلى حالة الاستياء لدى سكان الضفة الخاضعين للاحتلال من هذا الوضع، في حين لا تفرض أي قيود على المستوطنات اليهودية. وقال "لا يملك المزارعون العرب (الفلسطينيون) سوى الوقوف متفرجين على سلطة المياه الوطنية الإسرائيلية وهي تحفر آبارا جديدة لهذه المستوطنات".
وشملت الانتقادات الموجهة لسياسة المياه الإسرائيلية تقييد عمق آبار الفلسطينيين، هذا إذا سمح لهم بحفرها. ففي حين لا يتجاوز عمق الآبار الفلسطينية عادة 100 متر رغم أن العثور على مياه جوفية يحتاج حفرا بعمق أكبر من هذا بكثير، فإن عمق معظم آبار المستوطنات اليهودية يتراوح بين 300 و500 متر".
ولهذا، فإن الفلسطينيين لا يشكون فقط من أنه لا يمكنهم حفر آبار جديدة، بل أيضا من تأثير الآبار الإسرائيلية على الآبار والعيون الحالية".
آبار جفت
ورصد التقرير البريطاني أيضا ممارسات إسرائيل في تشغيل الآبار الجديدة التي تُحفر للمستوطنات.
وقال إن عمق الآبار والمضخات القوية التي يُركبها الإسرائيليون لسحب المياه من هذه الآبار لها تأثير واضح على الآبار الحالية.
وضرب مثالا بمشكلة قريتي بردالة وتل البادا في منطقة الأغوار الشمالية. وقال إن "الآبار الحالية (في القريتين) جفت بسبب ضخ المياه الضخم من الآبار الجديدة المحفورة لمستوطنة ميخولا القريبة".
في الخاتمة، قال معدو التقرير إنه "مع استمرار احتلال الضفة الغربية، تبدو إمكانية أن تتاح موارد مائية إضافية للمزارع العربي (الفلسطيني) بعيدة".
ونصح المزارعين الفلسطينيين بأنه "يمكنهم زيادة المساحة المروية وإنتاجها باستغلال الموارد المائية المتاحة بكفاءة أعلى والتوسع في استخدام وسائل الري الحديثة الإسرائيلية"، مثل التنقيط.
"منفعة لإسرائيل"
بعد ستة شهور فقط من الانتهاء من التقرير البريطاني، قرر الأردن دراسة "مشكلة موارد المياه في الضفة". فكلف الأمير الحسن بن طلال، ولي عهد الأردن حينذاك، الدكتور بسام الساكت، مستشاره الاقتصادي بإجراء هذه الدراسة.
وفي أوائل شهر يناير عام 1979، طلب الساكت من جون كينيث برودلي، المستشار السياسي في السفارة البريطانية في عمان، تزويده بأي معلومات متوفرة لدى بريطانيا.
وأسَرَّ الساكت للدبلوماسي البريطاني بأنه "يجد صعوبة فعلية في جمع أرقام مفيدة" عن موارد المياه في الضفة، وطلب منه تزويده بأي معلومات قد تكون لدى البريطانيين، باعتبار بلادهم سلطة الانتداب في فلسطين حتى إعلان قيام إسرائيل عام 1948، عن المشكلة.
وقال برودلي، في برقية بالغة السرية إلى لندن، إن الساكت "يدرس موقف الضفة الغربية من عدة جوانب". وأكد أن الخبير الأردني "يحاول بشكل خاص تقدير مدى اعتماد اقتصاد الضفة الغربية على إسرائيل" و"ينظر في مسألة توفر المياه للضفة الغربية".
وذكًّر برودلي إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في الخارجية البريطانية بتقرير"الضفة الغربية: موارد المياه واستغلالها".
وتساءل إن كان هناك أي اعتراض على تزويد الساكت بجزء من التقرير.
وأوصى الدبلوماسي البريطاني بالتعاون مع الساكت خدمة لقنوات الاتصال مع الأمير الحسن.
وقال إن "استجابة متعاونة من جانبنا ستخدم جيدا الترتيبات التي وضعت في الصيف الماضي لتبادل الأفكار مع الأمير حسن بشأن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لكيان مستقبلي محتمل في الضفة الغربية".
ووفق البرقية، كشف الساكت عن "استثمارات عربية خارجية" للضفة الغربية. وأكد أن "70 في المئة من هذه الاستثمارات فيه منافع تزيد أو تقل لإسرائيل".
ووصف الدبلوماسي البريطاني هذا التقدير بأنه "مثير للاهتمام".
ورغم تأييده التعاون مع الدراسة الأردنية المأمولة، نصح برودلي بحجب أجزاء مهمة من التقرير البريطاني عن الأردنيين، رغم السعي للحصول على نتائج دراسة الساكت بعد أن تتم.
استجابت الوزارة لطلب دبلوماسييها في الأردن، وقررت حجب الأجزاء التي تشرح معاناة الفلسطينيين من سياسة إسرائيل المائية في الضفة، عن الساكت.
بعد 14 عاما، أكدت المعلومات البريطانية عدم تحسن وضع المياه في الضفة، التي ظلت إسرائيل تعتمد عليها.
وكشفت إدارة البحوث والتحليل في وزارة الخارجية البريطانية أنه "ليس هناك شك في أهمية موارد الضفة الغربية المائية، خاصة المياه الجوفية، لإمداد إسرائيل بالمياه". وأضافت أن التقديرات تقول إن نسبة اعتماد إسرائيل على الضفة "تتراوح بين 25 في المئة و50 في المئة من إجمالي استهلاكها".
وحسب المصادر البريطانية، فإن "المستوطن اليهودي يحصل على أربعة أضعاف ما يحصل عليه العربي (الفلسطيني) من المياه".
وحذر الإدارة من أن "الآبار الإسرائيلية العميقة قد أدت إلى جفاف الآبار العربية الضحلة بالفعل، لذا فإن عدد الآبار العربية أقل أهمية".
وانتهى إلى أن العرب (الفلسطينيين) الذين يتلقون المياه، التي تحصل عليها إسرائيل من الضفة "ليس لديهم مصدر آخر للمياه وينبغي عليهم أن يدفعوا ثمنا لها أعلى بكثير من الثمن الذي تدفعه المستوطنات".
فيديو قد يعجبك: