مصر وليبيا.. من الاقتداء بـ"عبدالناصر" إلى تفويض "السيسي"
كتبت- إيمان محمود:
"تحمّلنا طول السنوات الماضية التوترات في ليبيا. ونحن لا ننشد منها إلا استقرارها؛ لأن مصيرنا مشترك".. جاءت تلك الكلمات التي ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال اجتماعه بمجلس قبائل ليبيا، الأسبوع الماضي، تحمل رسالة واضحة بأن مصر لن تتخلى عن جارتها الغربية التي تحمل علاقتهما روابط تاريخية أعمق من أن تمحوها أي أزمات.
فعلى مدى السنوات التسع السابقة، وتحديدًا بعد مقتل القذافي في أكتوبر 2011، عانت ليبيا من انقسامات داخلية أدت إلى حرب أهلية، ما جعل الفرصة سانحة لتدخلات دولية وإقليمية تبحث عن مصالحها، وعلى رأسها تركيا.
وسط كل ذلك، تحاول مصر التصدّي لأي عدوان خارجي على الشعب الليبي، كما تنادي بإرساء الهدنة والحوار بين طرفي الصراع: رئيس حكومة الوفاق فايز السرّاج، وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.
وفيما يلي أبرز المحطات التاريخية التي مرّت بها العلاقات "المصرية - الليبية":
في عام 1961، مع حلّ دولة الوحدة بين مصر وسوريا، قاد الطالب الليبي (آنذاك) مُعمّر القذافي مظاهرة في مدينة سبها رافعًا صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، مرددًا شعارات تنادي بالوحدة وتشجب قرار الانفصال.
لم يكن القذافي وحده مُتأثرًا بثورة مصر ضد الملكية والاحتلال، فكانت التجربة محل اهتمام كثير من الليبيين خاصة العسكريين منهم، وهو ما بدا جليّا في تشكيل تنظيم يحمل اسم "الضباط الوحدويين الأحرار"، تماما كما في مصر.
ربما لم يكن تأثر القذافي بتجربة مصر عاديًّا، فبعد حصوله على الشهادة من الكلية العسكرية، أرسل في دورة تدريبية إلى بريطانيا، ليعود منها ضابطا في الإرسال، ويبدأ في التحضير لـ"ثورة الفاتح من سبتمبر"، حتى نجح في تنفيذها في سبتمبر عام 1969.
يروي فتحي الديب، رئيس إدارة الشؤون العربية في جهاز الاستخبارات المصري (آنذاك)، في كتاب "عبد الناصر وثورة ليبيا" أن "القادة الليبيين تطلّعوا إلى دعم عبد الناصر، وتوجيهاته"، وهو ما جرى بالفعل.
زار عبد الناصر مدينتي طرابلس وبنغازي، في أواخر ديسمبر، وكان الاحتفاء به من الليبيين هائلاً؛ إذ يقول فتحي الديب في كتابه "كان مطار بني غازي يعج بجماهير الشعب التي اكتسحت في طريقها كل ما أعد من طوابير الجنود التي حشدها أعضاء مجلس الثورة تفاديا لما حدث في مطار طرابلس، ولكن فشلت هذه الاحتياطات والإجراءات في إيقاف الموجات البشرية العاتية التي اخترقت الحواجز البشرية من الجنود لتحيط بطائرة الرئيس جمال".
يتذكر الديب: "ما إن فتحت الطائرة أبوابها حتى تدافعت الجماهير، وتعالت أصواتها بالتكبير والهتاف مُرحبة بعبد الناصر، وعانينا الكثير حتى أمكن إيصال الرئيس إلى صالون الاستقبال وسط حماس جماهيري فاق كل تصور، وأعاق إتمام كل ما أعد من مراسم للاستقبال".
وخلال الزيارة تم توقيع ميثاق طرابلس في ديسمبر 1969، يهدف إلى البدء في اتخاذ خطوات إيجابية كمرحلة أولى لتوحيد القوات المسلحة والاقتصاد والتعليم عن طريق الوحدة الكاملة.
لكن لم يعاصر القذافي حُكم ناصر إلا عاما واحدا؛ إذ توفي الزعيم الراحل عام 1970، لكن تأثيره على القذافي استمر لبضعة سنوات، وهو ما ظهر جليًا في استلهام الإعلان الدستوري الليبي في أعقاب ثورتها من الدستور المصري، كما حاول القذافي تطبيق النموذج الاشتراكي.
كان من الطبيعي تحوّل مسار العلاقات المصرية الليبية في عهد السادات، فالقذافي المُتأثّر بالتجربة الناصرية اعتبر أن الرئيس أنور السادات "انحرف عن مسار عبد الناصر القومي سياسيًا واقتصاديًا".
لكن هذا الاختلاف لم يمنع من التعاون بين البلدين، والذي بلغ ذروته في حرب أكتوبر 1973؛ ففي الوقت الذي قدّمت فيه العسكرية المصرية عدداً كبيراً من المستشارين العسكريين لتدريب القوات الليبية، قادت ليبيا جهوداً ملموسة لحثّ الدول الأفريقية على قطع علاقاتها مع إسرائيل، وقدمت دعما عسكرياً لمصر.
وضع القذافي وقت الحرب بعض الإمكانات المالية الليبية تحت تصرّف الجيش المصري، كما يروي سعد الدين الشاذلي، قائد الجيش المصري، ومهندس العبور في مذكراته: "إنه عند قيام الحرب كانت القوات الليبية المتمركزة في مصر عبارة عن سربي ميراج، أحدهما يقوده طيارون ليبيون، والآخر يقوده طيارون مصريون، ولواء مدرع".
كما شاركت ليبيا بقوات عسكرية على الميدان كان يقودها، قائد الجيش الوطني الليبي (حاليًا) المشير خليفة حفتر، والذي حاز في أعقاب الحرب على وسام النجمة العسكرية من المشير أحمد إسماعيل ووزير الحربية خلال حرب أكتوبر.
وبعد حرب أكتوبر، ساد التوتر العلاقات المصرية الليبية، وتسببت سياسة القذافي في تصعيد الخلافات؛ خاصة بعد اعتراضه على معاهدة السلام، الأمر الذي اعتبره السادات "تدخلاً في شؤون مصر الداخلية".
بزغ فجر جديد في العلاقات مرة أخرى بعد تولي الرئيس الراحل حسني مبارك الحُكم، ففي عام 1989 التقي مبارك بالقذافي في المغرب، خلال مؤتمر القمة العربية، وفي أكتوبر من العام ذاته قام القذافي بأول زيارة له إلى مصر منذ 16 عامًا.
وبعد ذلك، تم إلغاء تأشيرات الدخول لمواطني البلدين، ثم توقيع عشر اتفاقيات تنظم كافة أوجه التعاون بين البلدين، وذلك في عام 1991، بحسب صحيفة "الأهرام الكندية".
ومع الرفع التدريجي للعقوبات على ليبيا من قِبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة في الفترة بين عامي 2003 و2008، تطورت العلاقات على نحو أكبر، وتم فتح مجالات للتعاون المشترك في صناعات النفط والغاز الطبيعي.
وكان القذافي يأمل في إنشاء خط أنابيب من طبرق إلى مصر، لكن هذا المشروع لم يُنفّذ.
تولّى أحمد قذاف الدم، ابن عم القذافي والذي انشقّ عنه فيما بعد، ملف العلاقات المصرية الليبية في عهد مبارك، وبذل فيه جهودًا كبيرة حتى اندلاع ثورات الربيع العربي التي أحدثت تغييرات كبيرة داخل البلدين، لكن مصيرهما أصبح مُترابطًا أكثر من أي عهد مضى.
في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لم تألُ مصر جهدًا لتستعرض الأزمة الليبية في المحافل الدولية كافة، في الوقت الذي تحاول جذب الفرقاء الليبيين إلى طاولة الحوار وتجنيب الشعب الليبي مخاطر القتال، مع حرص على عودة المصريين في ليبيا وتأمين الحدود الغربية.
ففي عام 2014، تأسست مجموعة دول الجوار الليبي (مصر والجزائر وتونس)، في أثناء القمة الأفريقية في غينيا الاستوائية، بغرض تقديم الدعم السياسي والأمني لليبيا من خلال العمل الجماعي للتعامل مع الموقف وفق آلية مشتركة لدول الجوار، بالتنسيق والتعاون مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، ورئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي.
كما ساهمت مصر في القضاء على بؤر تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا، إذ شنّت القوات المسلحة عدة غارات في العمق الليبي عام 2015 على مواقع لداعش في كل من سرت ودرنة في أعقاب قتل التنظيم عددا من المصريين الأقباط.
وشنّت مصر غارات أخرى عام 2017 على درنة، مُعلنه أن الضربة استهدفت مجلس شورى مجاهدي درنة، بعد قتله عشرات الأقباط خلال استقلالهم لحافلة في محافظة المنيا.
وفي أعقاب التدخل التركي السافر في ليبيا، بعد توقيع اتفاقية التعاون بين أردوغان والسراج، في نوفمبر 2019، بحث الرئيس السيسي مع أعضاء مجلس الأمن الدولي مخاطر وعقبات التدخل الخارجي في ليبيا.
وبدأت مصر منذ بداية إرسال مُرتزقة أردوغان إلى الجوار الليبي، في تصعيد لهجتها التحذيرية، وأكدت في بيان سابق لوزارة الخارجية أن "مثل هذا التدخل سيؤثر سلباً في استقرار منطقة البحر المتوسط، وأن تركيا ستتحمّل مسؤولية ذلك كاملة".
وفي أوائل يونيو الماضي، حاصرت مصر أطماع تركيا في ليبيا بمبادرة "إعلان القاهرة" التي لاقت تأييدا دوليا وإقليميا واسعا، لما تسعى إليه من تأكيد على وحدة وسلامة الأراضي الليبية واستقلالها واحترام الاتفاقات الدولية كافة، بالإضافة إلى إعلان وقف إطلاق النار.
كما صعّدت مصر من حدّة لهجتها، الشهر الماضي، حين حذّر السيسي من أن "أي تدخل مباشر من الدولة المصرية في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية"، مضيفاً "سواء في ميثاق الأمم المتحدة: حق الدفاع عن النفس أو بناء على السلطة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي: مجلس النواب".
وفي زيارة بارزة لوفد مشايخ وأعيان القبائل الليبية، الأسبوع الماضي، أعلنوا "تفويض السيسي" للتدخل في الأزمة بشكل مباشر، مؤكدين أن هذا التدخل "يأتي لحماية بلادهم وتنظيفها من المستعمر التركي"، وهو ما قابله السيسي بالتشديد على أن مصر "لن ترضى إلا باستقرار ليبيا سياسيا واجتماعيا".
ودعا أيضًا مجلس النواب الليبي إلى تضافر الجهود بين الشقيقتين ليبيا ومصر، بما يضمن دحر المحتل التركي والحفاظ على الأمن القومي المشترك.
فيديو قد يعجبك: