كورونا: ماذا نتعلم من "فشل" تجربة التطعيم الجماعي ضد إنفلونزا الخنازير عام 1976؟
نيويورك- (بي بي سي):
في 12 أكتوبر عام 1976، اصطف باسكال إيمبراتو، نائب مفوض الشؤون الصحية، في طابور أمام عيادة تشيلسي الصحية في حي مانهاتن، للحصول على لقاح.
كانت هذه العيادة واحدة من 60 مركزا آخر حول مدينة نيويورك خُصص لتوزيع اللقاح على جلّ سكان المدينة.
ففي هذا العام، أصدر الرئيس الأمريكي جيرالد فورد تعليمات ببدء حملة تطعيم جماعي غير مسبوقة لجميع سكان الولايات الأمريكية، بعد أن أصبح تفشي وباء إنفلونزا الخنازير يمثل خطرا وشيكا. وكان إيمبراتو رئيس فريق العمل المكلف بتطبيق برنامج توزيع اللقاحات في المدينة. وعلى عكس عمدة نيويورك، وافق إيمبراتو على نشر صوره أثناء حصوله على اللقاح في الصحف. وشهد هذا اليوم إقبالا كبيرا من السكان على مراكز التطعيم.
لكن سرعان ما باءت الجهود للترويج لبرنامج التطعيم الجماعي بالفشل. ففي الأسبوع الأول، شاعت أخبار مفزعة من مراكز التطعيم في مدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا، عن وقوع ثلاث وفيات غامضة جراء الإصابة بأزمة قلبية.
وبعد يومين، كتبت صحيفة "نيويورك بوست" اليومية، تحت عنوان "المشهد في عيادة الموت في بنسلفانيا"، وصفا مبالغا بقصد إثارة مشاعر القارئ، وذكرت: "انتفضت جوليا بوشي السبعينية عندما اخترقت الإبرة جلدها، ولم تكد تخطو بضع خطوات حتى سقطت على الأرض ولفظت أنفاسها الأخيرة".
ورغم عدم وجود ما يؤكد بشكل قاطع العلاقة بين حالات الوفاة تلك وبين اللقاح، اتضح فيما بعد أن كل هذه القصص كانت مختلقة ومضللة، لكنها لم تكن سوى واحدة من المشاكل العديدة التي حفل بها برنامج التطعيم الجماعي ضد فيروس إنفلونزا الخنازير عام 1976، عندما تسرع الرئيس الأمريكي في توزيع لقاح على الشعب الأمريكي بأكمله بناء على أدلة علمية ضعيفة وطيش سياسي.
وتوالت الدعاوى القضائية وتعرض البرنامج لتغطية إعلامية سلبية سلطت الأضواء على الآثار الجانبية للقاح، وقوضت الأحداث اللاحقة ثقة المواطنين في الصحة العامة لسنوات، وربما تكون قد مهدت لانتشار الآراء المغلوطة عن اللقاحات وانعدام الثقة في الصحة العامة في العقود اللاحقة.
وفي وقت تتسابق فيه الدول لإنتاج لقاح وتوزيعه على مليارات المواطنين في الوقت الراهن، ما الذي قد نتعلمه من تجربة التطعيم الجماعي في عام 1976 التي باءت بالفشل؟
ظهر فيروس إنفلونزا الخنازير في فبراير عام 1976، حين أصيب عدة جنود في قاعدة فورت ديكس العسكرية بالمرض. وبعد أن ثبت أن هؤلاء الجنود لم يخالط أي منهم خنازير، فقد ظن الأطباء أن الفيروس انتقل إليهم من البشر. وكشفت نتائج الفحوص عن إصابة أكثر من 200 مجند بالعدوى.
وكانت الأوبئة التي تفشت في عامي 1957 و1968 لا تزال حاضرة في الأذهان، وزادت المخاوف من انتشار وباء بقوة وباء الإنفلونزا الذي تفشى في عام 1918 وحصد أرواح عشرات الملايين. وأثبتت التحاليل والفحوص أن الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما ليس لديهم أجسام مضادة للسلالة الجديدة.
وأدرك مسؤولو الصحة العامة أنه بإمكانهم الحصول على لقاح ضد الفيروس بنهاية السنة إذا كثفوا جهود تطوير اللقاح. وكان قطاع الأدوية قد أنهى للتو تصنيع لقاح للإنفلونزا الموسمية المعتادة.
وأعلن الرئيس فورد في مارس عن تخصيص ما يعادل الآن 137 مليون دولار لجهود إنتاج اللقاح في فصل الخريف. وكتب إيمبراتو في ورقة بحثية عام 2015 عن أحداث 1967: "كان الهدف تطعيم كل رجل وامرأة وطفل في الولايات المتحدة، في إطار ما عُدّ أكبر برنامج تطعيم والأكثر طموحا على الإطلاق في الولايات المتحدة".
لكن بات من الواضح الآن أن هذه المخاوف لم تكن في محلها، فسلالة إنفلونزا الخنازير التي رصدت في قاعدة فورت ديكس، لم تكن خطيرة، ولم يكن من المتوقع أن تتطور إلى جائحة. واكتشف الباحثون لاحقا أن سلالة إنفلونزا الخنازير التي اكتشفت في القاعدة العسكرية لم تكن الأولى، فقد انتشرت سلالات حميدة عديدة من إنفلونزا الخنازير بين الشعب الأمريكي قبلها بسنوات، ناهيك عن أن الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، كان منشأها الطيور وليس الخنازير.
وربما يعزى ذلك إلى نوع من التحيز يسمى التحيز للتجارب الحديثة. فقد ظن الباحثون آنذاك أن أوبئة الإنفلونزا تتفشى كل 11 عاما، بحكم تفشيها في الخمسينيات والستينيات، مع أنها في الحقيقة لا تظهر بانتظام.
وكما هو الحال في أزمة وباء كورونا المستجد، قدم العلماء أفضل نصائح بقدر الإمكان بناء على معلومات غير مكتملة. ويقول إيمبراتو: "لقد أجمعنا حينها على أن الفيروس من غير المرجح أن يتحول لجائحة، لكننا لم نتمكن من الجزم بذلك".
وعقد فورد مؤتمرا جمع فيه مجموعة من كبار العلماء لاتخاذ قرار بشأن برنامج توزيع اللقاح. لكن ديفيد سينسر، مدير مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها آنذاك، يقول إن المؤتمر "فسر على أنه حدث سياسي وليس قرارا علميا".
وذكر هارفي فاينبرغ، الرئيس السابق للأكاديمية الوطنية للطب (معهد الطب سابقا)، في استعراض للأحداث عام 2008، أن الكثير من كبار العلماء الذين أيدوا اللقاح كانت تحركهم دوافع وأهداف خفية، فبعضهم انتهز الفرصة لتحسين مكانته أو مجاله على الصعيد الوطني، بينما بعضهم الآخر كان يعتقد أن الوقاية من الأمراض باللقاحات قد تشكل الحل الأمثل لجميع المشاكل البشرية.
ومع حلول الصيف، لم يتفش الوباء لا في الولايات المتحدة ولا خارجها، لكن جهود تطوير اللقاح لم تتوقف. إذ شرعت أربع شركات أدوية في إنتاج اللقاح، وأجريت تجارب سريرية لاختبار اللقاح.
لكن في يونيو، احتجت شركات الأدوية على رفض شركات التأمين منحها وثيقة تأمين لتغطية المبالغ التي قد يتحملها المؤمن عليه تجاه الغير في حالة تعرضه للأضرار، ومن ثم توقفت شركات الأدوية عن العمل.
وعرقل هذا الإضراب خطط مسؤولي الصحة العامة لأسابيع. وكتب سينسر: "إن الرسالة الواضحة غير المقصودة التي استنبطها الناس من إضراب مصنعي الأدوية مفادها 'أن هذا اللقاح ليس آمنا'، وكانت هذه الرسالة الخاطئة كفيلة بتحميل لقاح إنفلونزا الخنازير المسؤولية عن أي مشكلة صحية تتزامن مع توزيع اللقاح على المواطنين".
وفي يوليو ، وافقت إدارة فورد على تحمل تكلفة الدفاع عن الشركات في القضايا التي ترفع ضدها، وطلبت من الكونغرس إصدار تشريع خاص. واستأنفت الشركات جهودها لتطوير اللقاح، لكنها لم تنجح في استرداد ثقة الناس في اللقاحات.
أزمة أكتوبر
لم يكن إيمبراتو الوحيد الذي حرص على الظهور أمام الكاميرات أثناء حصوله على اللقاح في مدينة نيويورك، وكتب سينسر: "إن الرئيس الأمريكي نفسه ظهر على شاشة التلفاز أثناء حصوله على تطعيم إنفلونزا الخنازير، ما يؤكد اعتقاد الجماهير أن هذه الحملة لها دوافع سياسية".
وبدأت الأزمة بوقوع حالات الوفاة الثلاث في بتسبرغ. ورغم عدم وجود أدلة تثبت أنها كانت ناشئة عن اللقاح، فإنها شجعت الكثيرين على الإفصاح عن تردي صحتهم وإلقاء اللوم على التطعيم دون دليل. ومن ثم أوقفت تسع ولايات برامج التطعيم.
وعرض الكثير من الصحفيين روايات الناس دون تحري الأدلة عن مدى علاقتها بالتطعيم، رغم أن إثبات تأثير الوباء على عدد الوفيات يقتضي مقارنة عدد الوفيات المتوقعة بناء على المعدل في السنوات السابقة بعدد الوفيات التي وقعت بعد اللقاح. لكن التقارير عن حالات الإصابة بالأزمة القلبية غير المبررة ومعاناة الممرضين والممرضات والإخفاق السياسي نجحت في الاستحواذ على انتباه القراء.
وأطلق فريق إيمبراتو على هذه الأحداث "أزمة أكتوبر "، وانخفض بعدها الإقبال على اللقاحات بالتوازي مع انهيار ثقة المواطنين. ويقول إيمبراتو: "كانت بعض العناونين مخيفة، مثل 'ارتفاع ضحايا اللقاح'، فقد كان هؤلاء يراقبون المعدل المعتاد للوفيات بين كبار السن التي كانت ستقع حتما".
وانتقد إيمبراتو تعامل مركز مراقبة الأمراض والوقاية منها مع الأزمة، ويرى أنه كان من المفترض أن يتدخل سريعا لطمأنة الناس وعرض الأدلة. وتساءل عما إذا كان المركز آثر الصمت لأسباب سياسية. وكتب سينسر في عام 2006، أن جميع الفرص مهيأة لإدارات الصحة العامة للتواصل مع وسائل الإعلام والجمهور.
مشكلة الأعصاب
وبعد شهور، لم تظهر أي علامات لتفشي الفيروس، لكن مشاكل جديدة بدأت في الظهور، وهذه المرة كانت آثارا جانبية حقيقية للقاح. فقد ظهرت عشرات الحالات للإصابة بمتلازمة غيلان باريه، وهو مرض نادر سببه مهاجمة النظام المناعي للأعصاب. ويؤدي إلى الضعف وتنميل الأطراف في الحالات الشديدة، وقد يسبب مضاعفات أخرى قد تصل إلى الشلل.
واكتشفت الأبحاث التي أجريت منذ ذلك الحين أن احتمالات الإصابة بالمرض بعد التطعيم ضعيفة للغاية، لكن توسيع نطاق التطعيم في عام 1976، أدى إلى ظهور المرض بين حفنة من الناس.
وأشار سينسر في حوار مع منظمة الصحة العالمية إلى أنه لو كان المرض تفشى بالفعل في عام 1976، لطغى على هذه الحالات النادرة من الإصابة. فلا يخفى على أحد أن اللقاحات تسبب آثارا جانبية، لكن فوائدها في الوقاية من الأمراض تفوق مخاطرها للغالبية العظمى من الناس.
وذكرت هيلين برانسويل، من موقع "ستات" الإخباري، مؤخرا أن اللقاحات الجديدة ضد كورونا المستجد من المتوقع أن تسبب أثارا جانبية معتدلة، وهذا لا يدعو للخوف. علاوة على أن احتمالات الإصابة بمتلازمة غيلان باريه بسبب العدوى أعلى من احتمالات الإصابة بها بسبب لقاح.
لكن مرض غيلان باريه سبب معاناة لمئات الأشخاص الذين كانوا، بحسب الأبحاث الآن، في غنى عنها.
وبعد شهور من التغطية الإعلامية السلبية، عجلت تقارير الإصابة بمتلازمة غيلان باريه بنهاية برنامج التطعيم الجماعي ضد إنفلونزا الخنازير، ولم يحصل على التطعيم حينها سوى 20 في المئة فقط من سكان الولايات المتحدة.
وطالب المئات من المصابين بالمتلازمة بتعويضات من الحكومة الأمريكية، التي تعهدت بتغطية التكاليف الناتجة عن مسؤولية شركات الأدوية تجاه الغير.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمر" أن تعامل المسؤولين مع فيروس إنفلونزا الخنازير، كان مخزيا وفاشلا، وكانت تحركه مصالح سياسية وثقة غير مبررة. وحذرت الصحيفة من خطورة انهيار الثقة في فكرة الطب الوقائي برمتها.
وقد بقيت قرارات 1976 الرعناء راسخة في ذاكرة الشعب الأمريكي وأثرت على ثقتهم في اللقاحات ونصائح الصحة العامة لسنوات.
وفي ظل الوعود والآمال التي يعلقها الساسة الآن على اللقاحات للحد من تفشي وباء كورونا المستجد، ما الذي قد نتعلمه من أزمة لقاح إنفلونزا الخنازير عام 1976؟
يرى فاينبرغ أن الخطأ الفادح الأساسي آنذاك كان التسرع بالإعلان عن برنامج تطعيم جماعي قبل الآوان، فقد ترتب على ذلك التزامات وتعهدات واضحة لم يجد السياسيون مفرا من الالتزام بها. فعندما يطلق الرؤساء ورؤساء الوزارات، وعودا للشعب، مثل الجهود الأمريكية الحالية بتوزيع 300 مليون لقاح على الشعب الأمريكي بحلول 2021، تتحول معها الجهود العلمية إلى عهود سياسية.
وهذه الالتزامات تجعل الزعماء أقل استعدادا لتغيير خططهم في حالة ظهور أدلة جديدة أو تغير المخاطر. وكتب سينسر أن التقارير التي تلقاها فورد وغيره من الزعماء كانت تشير إلى أن الوباء لا يزال "محتمل الوقوع"، حتى بعد انخفاض احتمالات حدوثه مع الوقت. لكن مصطلح "محتمل" قد يقصد به العلماء أن فرص حدوثه لا تتعدى واحدا في المليون.
ويرى سينسر أن فورد، عندما تطوع ليكون واجهة لمبادرة التطعميات، لم يساعد في تعزيز ثقة الجمهور. وكتب: "عندما تدلي الرموز السياسية بمعلومات علمية، أغلب الظن أنها ستثير الريبة وليس الحماسة". وهذا يذكرنا بأزمة كورونا المستجد، حيث بتنا نرى الساسة يزاحمون الخبراء أمام الكاميرات لعرض المعلومات العلمية.
وقد بات واضحا الآن أن الأدلة العلمية التي اعتمد عليها العلماء عام 1976 لم تكن كافية، لكنهم في ظل عدم التيقن، توصلوا إلى هذه الاستنتاجات بدافع الخوف أو الحدس أو ربما بسبب اعتقادات خاطئة، وهذا ينطبق على العلماء في الوقت الحالي، فالمعلومات المتوفرة عن فيروس كورونا المستجد لا تزال غير مكتملة.
وحول التشابه بين الأوضاع في 1976 وبينها في 2020، يقول إيمبراتو: "أرى الآن نفس النمط من التعليقات بشأن التجارب واللقاحات ضد فيروس كورونا المستجد". وبينما لا يرى إيمبراتو مبررا لتأخير التلقيح الجماعي، فإنه يخشى من التغطية الإعلامية التي ستصاحبها. ويقول: "يطل علينا الآن سواء عبر التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من المعلقين يتحدثون عن أدق تفاصيل الوباء، ولا يملك أي من هؤلاء الخبرة التي تؤهله للتعليق عليه".
ويقول إيمبراتو، إن هناك الكثير من الدروس التي قد نستفيدها من أزمة لقاح إنفلونزا الخنازير عام 1976، ويرى أن من يتجاهلون التاريخ يجازفون بتكرار نفس الأخطاء. ولا يزال إيمبراتو من أشد المؤيدين لفوائد اللقاحات، ويقول: "إن كل ما حدث أثناء حصولي على اللقاح لم ينجح في إثنائي عن الحصول عليه".
فيديو قد يعجبك: