سوريا: كرة القدم على خط النار
لندن (بي بي سي)
تهتز جدران قاعة الألعاب الرياضية كلما سقطت قذيفة هاون قريبا منها، ولكن الأطفال الذين يتنافسون في دورة التايكواندو بداخلها لا يكترثون كثيرا لصوت الانفجار.
أصبح صوت القذائف جزءا من الحياة اليومية في العاصمة دمشق، التي تمزق الحرب أوصالها، فالأطفال الذين يسعون للحصول على أوسمة في هذا اليوم المتميز، لم يعرفوا شيئا غير الحرب في حياتهم القصيرة.
يقول رئيس اللجنة الأولمبية السورية، موفق جمعة، إن "170 قذيفة هاون سقطت على هذا المجمع الرياضي، وإذا اختبأنا كلما سقطت قذيفة فإن الإرهابيين سيأتون إلى بيوتنا".
لا يمكن الحديث عن حياة يومية في سوريا، دون الإشارة إلى تأثير الحرب عليها، ومنها تأثيرها على الرياضة.
فستة أعوام من الحرب دمرت سوريا، وجعلتها مسرحا لقصص تروى عن الفظائع وانعدام الإنسانية.
فمنذ بدء الانتفاضة عام 2011 لم نسمع خبرا إيجابيا عن سوريا، ثم جاء خبر رائع عن المنتخب الوطني لكرة القدم.
فالعلاقة المتميزة بين المنتخب الوطني والجماهير تبين قوة الرياضة من النواحي الشخصية والثقافية والسياسية.
على بعد 4500 كيلومتر، في بهو فندق جنوبي العاصمة الماليزية كوالا لامبور، كان لاعبون سوريون يقفون بانتظار تعيين الغرف التي سيقيمون فيها.
كان بعض اللاعبين يتناقشون بحدة بشأن فريق ريال مدريد، وكانت أسماء رونالدو وزيدان، وغيرهما تتردد على ألسنتهم، بينما كان آخرون منشغلين بهواتفهم في صمت.
هؤلاء هم أعضاء المنتخب السوري لكرة القدم، وهم اليوم في ماليزيا بعد رحلة شاقة خاضوها لوحدهم.
وفي أكتوبر من العام الماضي خاض المنتخب السوري مباراة الاياب من تصفيات كأس العالم 2018 في بكين، التي تصرف ملايين الدولارات من أجل رفع مستوى كرة القدم في الصين.
واحتفل اللاعبون بالفوز وذهبوا للتسوق بالمكافأة التي صرفت لهم.
فاز المنتخب السوري في الاسبوع الماضي على أوزبكستان، في مباراة كانت هي الأهم في تاريخ كرة القدم السورية، إذ كانت ستسمح له بلعب مباريات الفصل من أجل التأهل إلى نهائيات كأس العالم بروسيا العام المقبل.
ولكنه خسر مباراته التالية مع كوريا الجنوبية، مما قلل من آماله في التأهل التي تعتمد الآن على نتيجة مباراة الإياب التي سيخوضها ضد المنتخب الصيني.
وحصل اللاعبون بعد فوزهم في المباراة ضد المنتخب الأوزبكي على ألف دولار لكل منهم، وهو مرتب عام كامل للاعب كرة قدم في سوريا، وأكثر مما يحلم به أغلب السوريين في بلادهم، بعدما تراجعت قيمة عملتهم منذ بداية الحرب بنسبة 1000 في المئة.
لماذا ماليزيا؟
وقع الاختيار على ماليزيا لأن العقوبات الاقتصادية والمخاوف الأمنية تمنع إجراءات مباريات في سوريا، التي فرض على منتخبها لعب مبارياته في ملعب محايد أمام عدد قليل من جمهوره.
ولم يكن إيجاد الملعب المحايد سهلا على بلد ليس له من الأصدقاء في العالم إلا القليل. وكاد المنتخب السوري أن ينسحب من تصفيات كأس العالم نهائيا لعدم توفر دول مستضيفة، وهذا ما جعل الإنجاز الذي حققه الفريق خارقا للعادة.
فهل هناك فريق في العالم يعتبر تحقيق فوز واحد وتعادلين إنجازا عظيما؟
وقبل الفوز على الصين، حقق المنتخب السوري تعادلا أمام كوريا الجنوبية التي سبق أن وصلت إلى نصف نهائي كأس العالم، وبفضل هذه النتائج أصبح العالم ينتبه تدريجيا إلى سوريا لأسباب رياضية.
ولكن هذه القصة ليست كلها أخبارا جميلة، فلا ينبغي أن نتناسى أن قبضة نظام الرئيس بشار الأسد على السوريين لا تستثني الرياضة.
ويعد هذا الإنجاز النسبي للمنتخب السوري فرصة يداوي بها الشعب السوري بعض جراحه، وهي أيضا وسيلة دعاية يستفيد منها الرئيس السوري.
فالترويج لثقافة كروية صاعدة أمام العالم يتسق تماما مع صورة التطبيع والانتصار والاستقرار والسيطرة التي يريد النظام نشرها.
ولكن الحقيقة تختلف عن ذلك كثيرا.
لاشك أن عمل المراسل الرياضي ممتع، إذ يمكن هذا العمل المرء من الكتابة عن أهم الأحداث الرياضية حول العالم.
ورغم خبرتنا المجتمعة التي تتجاوز الـ 30 سنة، كانت هذه المهمة مختلفة عن أي مهمة أخرى قمنا بها، وأخذتنا إلى سوريا ولبنان والأردن وأخيرا إلى ماليزيا.
وفي نهاية المطاف، هذه هي قصة 23 لاعب كرة سوري و23 مليون نسمة هم مجموع الشعب السوري و4,9 مليون لاجئ و6 سنوات من الحرب ورئيس سوري واحد.
الرياضة المفضلة في سوريا
يقول طارق جبّان، مساعد مدرب المنتخب السوري، "نريد للاعبينا أن يلعبوا خارج سوريا، وهذا أمر ضروري."
ربما لا توجد عبارات أقوى تصف أزمة الكرة السورية من تشجيع مساعد مدرب المنتخب للاعبين على ترك البلاد والتوجه الى الخارج.
ليس طارق جبّان مدربا فحسب، بل كان أيضا واحدا من أفضل لاعبي الكرة في سوريا، وهو يعرف أكثر من غيره مدى تدهور رياضة سوريا المفضلة منذ اندلاع الحرب في البلاد قبل سنوات ست.
فقد تدهور الدوري السوري إلى درجة تعذر عليه فيها توفير الدعم والتسهيلات المتاحة في الخارج.
وبالفعل غادر العديد من اللاعبين السوريين، فعلى سبيل المثال يلعب معظم اللاعبين الـ 23 الذين جاءوا إلى ماليزيا هذا الأسبوع في الخارج، بمن فيهم لاعبون كبار من أمثال قائد المنتخب، أحمد الصالح، الذي يلعب في نادي هينان جيانيي الصيني واللاعب المخضرم فراس الخطيب الذي يلعب في نادي الكويت.
كما يحصل اللاعب عمر خربين على ثروة كبيرة - بالمعايير السورية طبعا - بعد ما انضم إلى صفوف الهلال السعودي.
ويقال إن أفضل لاعب ما زال موجودا في سوريا هو ابن عمه أسامة عمري الذي يلعب في فريق الوحدة في دمشق وهو هداف الدوري السوري الحالي.
على خلاف اللاعبين الآخرين، لم يكن لعمري خيار مغادرة سوريا. فقد جند في الجيش وانتدب من وحدته العسكرية إلى نادي الوحدة. غادر العديد من اللاعبين سوريا قبل اندلاع الحرب، وتمكن آخرون - من أمثال خربين - من تجنب الخدمة العسكرية نظرا لكونهم الأبناء الوحيدون لوالديهم.
هذه هي الخطوط الدقيقة التي تتحكم بالحياة هنا في سوريا.
انحسر الدوري السوري جغرافيا نتيجة الحرب، إذ لا تجرى المباريات إلا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.
وعمليا، لا تجري نشاطات الدوري إلا في مدينتي دمشق واللاذقية.
ولكن بعدما استعادت الحكومة سيطرتها على بعض المناطق التي كانت في يد المعارضة، بدأت كرة القدم بالتمدد ثانية.
وفي يناير الماضي، عادت كرة القدم إلى مدينة حلب. كما تمارس اللعبة في مدينة حمص.
إن العودة السريعة لكرة القدم إلى هذه المدن والمناطق تشير إلى رغبة الحكومة في استغلال اللعبة لإثبات أن الحياة تعود إلى طبيعتها وأنها انتصرت فعليا في الحرب، إذ هل يوجد أمر أكثر طبيعية من الذهاب إلى ملعب لمتابعة مباراة لكرة القدم؟
ولكن، كما أن عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا محض وهم، فإن "ازدهار" الكرة فيها وهم أيضا.
فالحقيقة تقول إن الدوري السوري في أزمة، إذ يعاني من شح خطير في الأموال نتيجة سنوات من العقوبات الاقتصادية وانهيار قيمة الليرة السورية، كما يفتقر الاتحاد السوري لكرة القدم إلى الأموال الضرورية لعمله أيضا.
قيل لنا إن الاستثمارات الخاصة انخفضت إلى أدنى مستوى وإن الدوري يعتمد كليا على الأموال الحكومية. ولا يحضر معظم المباريات إلا جماهير قليلة، نظرا لشح الأموال لدى المشجعين والمخاوف الأمنية من التجمعات الكبيرة.
لا يتجاوز الأجر الذي يتقاضاه اللاعب السوري الجيد في الدوري المحلي 200 دولار في الشهر. يعد هذا أجرا مجزيا بالمعايير السورية، ولكن لا يمكن مقارنته بالأجور التي يتقاضاها لاعبو الكرة في البلدان الأخرى. ويحصل الفريق الذي يفوز بالدوري على مكافأة تبلغ 10 آلاف دولار فقط لا غير.
ولذا هجر أفضل اللاعبين السوريين البلاد ويتعذر على الفرق المحلية اجتذاب أي مواهب كروية من الخارج. وليس من قبيل الصدفة غياب أي لاعبين أجانب في الدوري السوري.
مهند ابراهيم كان أحد اللاعبين الذين تركوا البلاد قبل اندلاع الحرب في عام 2011. كان مهند من خريجي برنامج تدريب الأشبال التابع لنادي حمص، أحد أكثر النوادي السورية عراقة، وكان يلعب في صفوف المنتخب الوطني السوري، ولكنه غادر إلى السعودية ثم إلى جمهورية التشيك، ويلعب الآن في صفوف نادي كفر سوم الأردني.
يقول مهند "الوضع الاقتصادي في سوريا صعب الآن بشكل عام، وبطبيعة الأمر ينعكس هذا على القطاع الرياضي. أعرف العديد من أفراد المنتخب وأنا على اتصال دائم بهم، وهم يواجهون ظروفا معيشية صعبة جدا."
لعب مهند إبراهيم آخر مبارياته في صفوف المنتخب الوطني في عام 2011، ويقول إنه تلقى العديد من الدعوات منذ ذلك الحين للانضمام إلى المنتخب ولكنه رفضها لأسباب وصفها بالشخصية ولا علاقة لها بالأمور السياسية.
ويقول "بالطبع أريد أن أكون معهم (اللاعبين)، ولكن كما تعرفون هناك ظروف تمنعني من الالتزام بالمنتخب، وهذه الظروف نفسها أجبرتني على الاعتذار عن العودة إليه. مع ذلك، قلبي دائما معهم وأتنمى لهم حظا سعيدا. أتمنى أن يقدموا أفضل ما لديهم من أداء وأن يتأهلوا وأن يكونوا من أفضل الفرق المتأهلة."
ذهبنا لمشاهدة إحدى مباريات الدوري بين فريقي الشرطة وجبلة (التي تقع قرب اللاذقية).
جرت المباراة عصر أحد أيام الجمعة على أرض ملعب تشرين في العاصمة دمشق. كان جنود الجيش المدججون بالسلاح يحيطون بالملعب، مما يذكر بالمخاوف الأمنية التي تمنع العديد من عشاق الكرة من حضور المباريات.
ويثبت ملعب تشرين ذلك بشكل جلي، فقبل 4 سنوات، وفي فندق مجاور، قتل اللاعب يوسف سليمان من نادي الوثبة في حمص عندما سقطت قذيفة هاون بالقرب منه عندما كان يستعد لخوض إحدى مباريات الدوري.
مع ذلك، تجشم المشجعون عناء الحضور إلى الملعب بمعنويات عالية، إذ كانت مجموعة منهم تغني على أنغام الطبول وكانت الهتافات تملأ أرجاء الملعب المهجور تقريبا. ولم يتجاوز عدد الحاضرين 300.
التقينا بأحدهم وقد اصطحب معه أسرته الشابة. قال لنا إنه لا يخاف من الحضور.
وقال "من المهم جدا أن نحتفظ بالأمل وأن نشعر بالتفاؤل. علينا أن نعيش حياتنا بطريقة طبيعية في الرياضة وفي كافة المجالات. الأطفال بحاجة إلى حياة طبيعية، فلا ذنب لهم فيما يحصل. هم بحاجة إلى حضور المباريات والذهاب إلى المدرسة وإلى الحدائق العامة."
سمح لنا بعد نهاية الشوط الأول من المباراة بالنزول إلى مضمار العدو الذي يحيط بساحة اللعب، وذلك لمقابلة مدير المنتخب الوطني السوري والمسؤول عن النتائج الباهرة التي حققها في تصفيات كأس العالم.
وعند انتظارنا له، ألقينا نظرة فاحصة إلى أرض الملعب فوجدناها تتكون من أعشاب تكاد لا تشبه الحشيش الذي يغطي أرض الملاعب عادة، كما كانت مساحات من أرض الملعب جرداء تماما. ولذا لم نستغرب تأخر الشوط الأول نتيجة كثرة الإصابات.
مدير المنتخب الوطني السوري أيمن حكيم واع تماما بهذه المشاكل.
قال لنا "إن النتائج التي حققناها حتى الآن ليست أقل من معجزة، نظرا للظروف السيئة جدا التي نعايشها. فكل الفرق الأخرى تستطيع اللعب في أراضيها إلا نحن، إذ نضطر للعب في الخارج كل الوقت. إن انجازاتنا تثبت الروح المعنوية العالية التي يتمتع بها لاعبونا."
ظهرت خلف حكيم لافتة كبيرة للرئيس بشار الأسد مرفوعة على المدرج الخالي خلف الهدف، وهي بمثابة تذكار بأن الحرب تقع في خلفية كل شيء في سوريا، إذ أن تأثيرها على كرة القدم المحلية - علاوة على اضطرار المنتخب الى اللعب في ملاعب محايدة وقلة المباريات الودية - يعني أن العوائق التي تواجهها سوريا لا يواجهها أي منتخب آخر. ولكن حكيم لا يشعر بالإحباط..
وعند عودتنا إلى مقاعدنا في المدرج الرئيسي صحبة مدير المنتخب بدأ الجمهور بالهتاف "روسيا...روسيا...روسيا". ظننا أول الأمر ان الهتاف له علاقة بمباريات التأهل لدورة كأس العالم 2018 المزمع إقامتها في روسيا، ولكن المترجم الذي كان بمعيتنا قال إن الجمهور يهتف لأنه ظن أننا من الروس، فهو يعتقد أن وسائل الإعلام الأوروبية الوحيدة التي قد تكون مهتمة بكرة القدم السورية لابد أن تكون روسية.
انتهت المباراة 3-2 لصالح فريق جبلة، ولكن، وكما هو الحال في العديد من المباريات التي تشهد عددا كبيرا من الأهداف، كان مستواها ضعيفا الأمر الذي جاء مؤكدا للتوقعات.
ولكن الأمور لم تكن على هذه الشاكلة في الماضي. فثقافة كرة القدم متجذرة في وعي المجتمع السوري، وقبل اندلاع الحرب كانت اللعبة تشهد حالة ازدهار. ويعد الاهتمام الذي حظيت بها أول مباراة يخوضها المنتخب النسوي السوري في عام 2005 نموذجا للشعبية التي تحظى بها كرة القدم في هذا البلد.
وبينما تسترعي انجازات منتخب الرجال حصة الأسد من الاهتمام في الوقت الراهن، يغيب عن انتباه الكثيرين أن منتخب سوريا الكروي النسوي يوشك على البدء في حملته للتأهل لبطولة كأس العالم أيضا، وهو حدث لا يقل أهمية عن حملة المنتخب الوطني للرجال.
ولكن، وعكس نظرائهن من الرجال، توقفت النساء تماما عن اللعب بسبب الحرب، فلم تخض النسوة السوريات أي مباراة دولية تنافسية منذ عام 2011. وبعد انتظار دام 6 سنوات، يوشكن الآن على خوض 4 مباريات في 8 أيام في فيتنام.
تبلغ اللاعبة نور جريس من العمر 21 عاما، وهي إحدى من أعضاء الفريق الكروي السوري النسوي الذي يتخذ من مقر الاتحاد السوري لكرة القدم مقرا له قبل توجهه إلى العاصمة الفيتنامية هانوي.
قالت جريس "لدينا القدرة على المشاركة، ولدينا الأمل بتحقيق نتائج جيدة بفضل التأييد الذي نحظى به وبفضل مدربينا. سنحقق بنتائج طيبة."
وفي حقيقة الأمر، سواء بالنسبة للنساء أو الرجال، وسواء على المستوى الوطني أو المحلي، فإن كرة القدم تحظى بحماس كبير في سوريا بالرغم من الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد.
قال لنا إبراهيم إن مشجعي الكرة السوريين هم "البسمة" على محيا اللعبة.
لم يكن للسوريين دواع كثيرة للابتسام في السنوات الأخيرة، ولكن منتخبيهم الكرويين يبذلان أقصى ما لديهما من جهد لتغيير ذلك.
عندما تغمض عينيك، يخيل لك أنك موجود في أي مدينة شرق أوسطية أخرى.
فالأذان وأصوات السيارات التي لا تخفت وزعيق سيارات الشرطة لا تختلف عن تلك في أي مدينة أخرى.
ولكن عندما تفتح عينيك تكتشف أن هذه ليست كباقي المدن. فهذه دمشق.
ودمشق هي معقل الرئيس السوري بشار الأسد الذي ما لبث يقود حربا ضد معارضيه منذ أكثر من 6 سنوات.
وكما هو الحال في ملعب تشرين، تنتشر صور الرئيس الأسد في كل أرجاء العاصمة. فالقيادة السورية تعتمد على عبادة الفرد، ولذلك ترى وجه الرئيس وهو ينظر إليك في كل مخزن وسيارة أجرة ودائرة حكومية ونقطة تفتيش ومقهى.
في بعض الحالات، قد يجد الأجنبي ذلك أمرا مضحكا، فنقطة تفتيش جوازات السفر الصغيرة عند الحدود السورية اللبنانية فيها 9 صور للرئيس الأسد، واحدة منها في إطار على شكل قلب.
ولكن ليس هناك أي أمر مضحك في ما يتعلق بوضع اولئك المضطرون للعيش داخل سوريا تحت نير حكمه الاستبدادي.
الكثيرون في سوريا يتجنبون ذكر الرئيس الأسد أساسا، فالخوف من النظام يسري في أعماق النفسية السورية.
والمظاهرات السلمية التي انطلقت في عام 2011 كجزء مما أصبح يعرف "بالربيع العربي"، تحولت سريعا إلى حرب أهلية دموية.
من وجهة نظر الحكومة السورية، فإن قوى خارجية - تركيا وقطر والسعودية على سبيل المثال - تستغل الحرب لإضعاف الحكومة أو الإطاحة بها والإضرار بحليفتها إيران.
كما تقول الحكومة السورية إنها تخوض حربا وجودية ضد الطائفية السنية المتغولة التي تهدف إلى القضاء على الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الرئيس الأسد.
أدت الحرب السورية إلى تدخل قوى عالمية في معمعتها، كما سمحت لجهات مثل تنظيم الدولة الإسلامية باستغلال الفوضى التي عصفت بالبلاد. ومزقت الحرب هذه البلاد العريقة شر ممزق.
فقد قتل جراءها مئات الآلاف من المدنيين، كما تحولت مدن عامرة إلى ركام وشرد الملايين داخل البلاد وخلقت أزمة لاجئين لم ير العالم مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية.
وتتهم الحكومة السورية بارتكاب جرائم حرب بحق شعبها لانتهاكاتها المتواصلة والشنيعة لحقوق الإنسان مثل استخدام الأسلحة الكيمياوية واستهداف منابع مياه الشرب.
ويسيطر معارضو الحكومة السورية على مساحات كبيرة من أراضي البلاد، ولكن الدعم الذي تقدمه روسيا لحكومة الأسد غير جذريا مسار الحرب منذ عام 2015. فقد تمكنت القوات الحكومية بمساعدة الكرملين من استعادة السيطرة على مدينة حلب الشمالية المهمة أواخر العام الماضي.
في غضون ذلك، يستمر نسغ الحياة بشكل شبه طبيعي بالنسبة لسكان العاصمة دمشق، لكن العنف ليس بعيدا عنهم في أي وقت.
وقد شاهدنا أثر ذلك بشكل مباشر.
فقد قال لنا العميد موفق جمعة أثناء زيارتنا لمسابقة محلية للتايكواندو للأطفال بأن قصف الهاون - الآتي من مواقع المعارضة في ضواحي دمشق والمتوجه إلى هذه الضواحي من مواقع الجيش - يعد جزءا من الحياة اليومية في العاصمة السورية.
ويترأس جمعة اللجنة الأولمبية السورية، وهو عضو في مجلس الشعب، ويعد أقوى شخصية رياضية في البلاد وناطقا باسم النظام.
يقول العميد جمعة "إن الموقف آمن هنا، كما هو آمن في العديد من المدن السورية كحمص واللاذقية وحتى حلب."
ولكن الانفجارات التي شهدناها للتو تناقض ما ذهب إليه. كيف يكون المكان آمنا إذا كانت القذائف تتساقط عليه من السماء.
ولكن جمعة قال "إن الحياة تسير سيرا طبيعيا هنا، ولكن ليس كما كانت قبل اندلاع الحرب."
ومضى للقول "إن قذائف الهاون والإرهاب تهدف إلى منع السوريين من عيش حياتهم، ولكننا نؤمن بأن هذه البلاد يجب أن تبقى."
سألنا جمعة عن رأيه في الذين يقولون إنه ينبغي منع سوريا من المشاركة في الفعاليات الرياضية الدولية في ضوء الادعاءات القائلة إن الحكومة السورية قصفت مستشفيات ومدارس واقترفت جرائم حرب بحق شعبها.
قال العميد جمعة، "إن الوجه الحقيقي للحكومة السورية يمكن رؤيته قبل عام 2011، عندما كان الشعب والمستشفيات والمدارس تتمتع بالأمان. إن الحكومة السورية تدافع عن شعبنا وتحارب من أجل وحدة سوريا أرضا وشعبا."
في اليوم التالي تسنى لنا أن نرى صورة واقعية للموقف المتأزم في سوريا على حقيقته.
فعندما كنا منهمكين في العمل، سمعنا دوي انفجارات متتالية من مسافة لا تتجاوز 1،5 كلم، وكانت الانفجارات مفصولة بفترات لا تتجاوز بضعة دقائق الغرض منها إيقاع أكبر قدر من الخسائر.
وبعد رحلة قصيرة إلى مقبرة الباب الصغير الواقعة في الجزء القديم من دمشق، قيل لنا إن انفجارين وقعا في مرآب قريب للحافلات، أحدهما جراء عبوة مزروعة على جانب الطريق والثاني سببه انتحاري فجر العبوة التي كان يحملها وسط الناجين من الانفجار الأول - ومعظمهم من الزائرين العراقيين - بينما كانت فرق الطوارئ منهمكة في إسعافهم.
سمح لنا ضابط مخضرم بدخول موقع الهجوم، وكانت الرائحة المتصاعدة من الأرض قوية جدا، إذ امتزج وقود الديزل بدم الضحايا ليشكل مزيجا مقززا.
وكان علينا أن نتوخى الحذر عند المسير لكي لا ندوس على أشلاء القتلى.
شاهدنا كرسيا متحركا مهشما وأحذية ممزقة ومحفظة ونظارات مكسرة مبثوثة في مكان الانفجار، وهي الآثار الأخيرة للهجوم الذي قال المرصد السوري لحقوق الانسان إنه أسفر عن مقتل 74 شخصا.
وعلى الرغم من أن الهجمات على هذا المستوى نادرة الوقوع في دمشق، فإن الدمشقيين الذين توافدوا لمشاهدة الدمار بدا عليهم عدم الاكتراث، بما حدث.
كانت لقطة قصيرة ومرعبة وشخصية لما عانى السوريون منه لأكثر من ست سنوات، ومن المستحيل على المرء إلا أن يشعر بقدر كبير من التعاطف مع أولئك الذين تأثروا بنتائج هذه الحرب.
وزاد من تأثرنا بما شاهدناه طلب سائق السيارة المستأجرة التي استخدمناها في تنقلاتنا منا أن نتأكد من غسل أحذيتنا من أي أثر للدم، فقد كان حريصا ألا تلوث الدماء سجاد سيارته.
بدا لنا ادعاء العميد جمعة بأن الموقف هنا آمن وعادي بأنه ادعاء لا يمت للواقع بصلة.
اللاجئون
"اندلعت الأزمة وبدأت الحرب. أصابت قذيفة بيتنا وقتل شقيقي، لذا أجبرنا على الفرار والسعي للجوء إلى مكان آخر."
هذا ما قاله اللاجئ محمد الخلف، ولكن قصته تشبه قصص السوريين الـ 80 ألفا الذين يسكنون الآن في مخيم الزعتري للاجئين شمالي الأردن.
قال الخلف "لكل أسرة في المخيم تقريبا نفس القصة، إما خسروا شهيدا أو جريحا ومفقودا أو معتقلا. هذه هي قصص هذا المخيم."
جئنا إلى مخيم الزعتري لأن قصص المعاناة في سوريا المعاصرة لن تكتمل دون اللاجئين، وكرة القدم لا تختلف عن ذلك.
جلسنا على أريكة قديمة متهالكة خارج مقهى في المخيم مشيد كباقي المباني هنا من صفائح معدنية تبرعت بها الأمم المتحدة. ويقع المقهى في الطريق الرئيسي المار في المخيم الذي اصطلح على تسميته "جادة الشانز إليزيه."
ولكن هذه ليست فرنسا، فهي تختلف عنها بكثير.
كان محمد الخلف يلعب في صفوف نادي المجد لكرة القدم في حي القدم بدمشق، ولكن الحرب أجبرته على ترك مسيرته الرياضية. ومثل الكثيرين من السوريين يشعر الخلف بالغضب، ولكنه مثل قليل من السوريين لا يجد حرجا في التعبير عن هذا الغضب.
قال "نحن غاضبون لأن العوائل شردتها وفرقتها الحرب. كل الأسر السورية تفرقت، ولذا نشعر بالغضب. ولكن ما عسانا أن نفعل؟"
شيد مخيم الزعتري الذي يبعد عن الحدود السورية بمسافة 15 كيلومترا في عام 2012، وهو الآن رابع أكبر مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن. وجميع سكانه يحاولون بطريقة أو بأخرى إعادة بناء حياتهم. لا يختلف الخلف عنهم، فقد وجد عملا مع إحدى المنظمات غير الحكومية، ولكن الأهم من ذلك أنه انضم Yلى فريق آخر لكرة القدم.
حصل الخلف على إذن خاص بمغادرة المخيم، مما يسمح له بالتدريب مع فريقه الجديد. ولكن عليه تجديد الإذن كل أسبوعين. يذكر أن معظم سكان المخيم لا يسمح لهم بالحصول على إذن بالمغادرة إلا مرة في السنة.
ورغم أن الفريق الذي انضم إليه الخلف فريق متواضع يلعب في دوري الدرجة الثانية في الأردن، فهو يعتبره بداية جديدة.
توجهنا إلى عمق المخيم للالتقاء بعصام المصري الذي ترك مسيرته الكروية خلفه عندما فر من سوريا، وكان عمره آنذاك 18 عاما فقط.
يعيش المصري في حاوية معدنية قرب "جادة الشانز اليزيه" مع والدته ووالده وشقيقاته الست وشقيقه. كانت الأسرة تعيش قبل اندلاع الحرب السورية في درعا القريبة من الحدود مع الأردن والتي شهدت اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011.
وبعد عامين من اندلاع الحرب، تركت الأسرة مسكنها في عام 2013 واجتازت الحدود إلى الأردن وبيد كل من أفرادها حقيبة ملابس واحدة فقط..
قال المصري "الحرب التي اندلعت في بلادنا وظروف المعيشة الصعبة التي لم نتمكن من تحملها أجبرتنا على المغادرة كما أجبرت الكثيرين غيرنا على ذلك، فانتهى بنا المطاف في الزعتري."
ومضى للقول "لم نتمكن من العمل لإطعام أطفالنا وأسرنا."
سألناه إن كان يشعر بالغضب أو الحزن، فهز كتفيه إشارة إلى اللا مبالاة وابتسم وقال "على كل منا أن يخفي مشاعره."
شاهدنا في غرفة جلوس أسرة المصري في المخيم عددا كبيرا من الأوسمة والكؤوس التي فاز بها في مسيرته الكروية، وكانت مجموعة مثيرة للإعجاب بالفعل.
قيل لنا إن المصري هو أفضل لاعب في المخيم، وبدا أن مجموعة الأوسمة والكؤوس تؤكد ذلك.
وكان أمام المصري مستقبل زاهر مع فريق نادي الشعلة في درعا عندما غادرت أسرته سوريا.
ولكنه لم يفقد الأمل، وقال "مازالت لدي الكثير من الآمال والأحلام، فحلمي الأول أن أصبح لاعبا مرموقا وانضم إلى فريق شهير."
وقال إنه اضطر إلى ترك العديد من الكؤوس التي فاز بها في سوريا، وأضاف بمزيج من الحزن والفخر "كان لدي ضعف هذا العدد."
عندما جاء وقت الرحيل، طلبت منا والدته إن كان بمقدورنا مساعدة ابنها في ما يتعلق بمسيرته الكروية، فهي تعرف أكثر من غيرها أهمية هذا الأمر بالنسبة له. قلنا لها إن العديدين سيقرأون عنه "إن شاء الله". ولكننا لم نستطع أن نعدها بأكثر من ذلك.
ورغم عدم انضمامه إلى أي ناد كروي بعد، يقوم المصري الآن بتدريب اللاعبين في المخيم، فقد وجد عملا في البرنامج الذي يموله الاتحاد الأوروبي لكرة القدم وبرنامج تطوير الكرة التابع للاتحاد الآسيوي والذي يهدف إلى تدريب الأطفال من مختلف الأعمار على فنون الكرة.
وصلنا بعد ذلك إلى ما يشبه ملعبا مدرسيا.
كان أطفال لا تتجاوز أعمارهم الـ 6 سنوات منهمكين في ما لا توفر لهم الحياة في المخيم فرصة القيام به ألا وهو التبسم والتصرف كأطفال بينما يركضون خلف كرة في الساحة المكسوة بالحصى.
كان اللعب فوضويا وغير منظم، تحت الرقابة ولكن لا يشرف عليه أحد. فالأمر الأهم هو أن يتمتع الأطفال بوقتهم.
أما في الجزء المبلط من الملعب، كان شباب أكبر عمرا يحصلون على تدريب أكثر تنظيما من المصري، إذ كانوا يمارسون الضربات الرأسية والصدرية وأساليب السيطرة على الكرة. أسلوب المصري خليط من التشجيع والتعليم، وكانت كلمة "برافو" تسمع منه بشكل متواتر.
احتفل المشروع مؤخرا بذكرى تأسيسه الرابعة، وكان الغرض منه استغلال كرة القدم لمساعدة هؤلاء الأطفال على نسيان ما مروا ويمرون به ولو لفترة وجيزة.
قال منسق البرنامج إن "كل هؤلاء الأطفال خبروا أهوال الحرب. فالحرب، حتى بالنسبة للبالغين، أمر صعب التأقلم معه خصوصا مع القتل والدم المسفوك. وعند مجيئهم إلى هنا للمرة الأولى كان يصعب عليهم ترك أماكن سكناهم، ولكنهم تمكنوا تدريجيا من التأقلم مع الوضع."
ومضى للقول "كان البرنامج في أول الأمر موجها للأولاد فقط، ولكن عندما رأينا أن بعض الفتيات كن متحمسات للأمر أشركناهن أيضا، وفي نهاية المطاف تمكنا من إسعاد الأولاد والفتيات معا."
عندما فتح البرنامج المجال لتدريب للفتيات، لم تنضم إليه إلا 3، نظرا للحساسيات المجتمعية للعديد من اللاجئين الذين قدم كثير منهم من مناطق ريفية جنوبي سوريا، إذ كانت كثير من الأسر تتردد في السماح لبناتها باللعب أمام الآخرين.
فيديو قد يعجبك: