لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الفاسدون الجدد.. تحليل درامي

د. أحمد عبد العال عمر

الفاسدون الجدد.. تحليل درامي

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 23 يونيو 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لماذا يفسد السيد المَسْؤُول؟ وهل المَسْؤُولين الذين قُبض عليهم في السنوات الأخيرة في مصر من خلال رجال هيئة الرقابة الإدارية في مواضع قيادية مختلفة، كانوا شخصيات فاسدة بطبيعتها، أم فسدت تلك الشخصيات في مرحلة معينة من حياتها بعد أن أصبحت في مواقعها القيادية؟

أظن أن هذا السؤال الأمني والدرامي يشغل عقل كل مهتم بالشأن العام والإصلاح الإداري في مصر كلما أعلنت هيئة الرقابة الإدارية عن قضية جديدة لفساد مَسْؤُول خان الأمانة والوطن، وتربح من وظيفته العامة بعد أن إهدار حقوق الدولة بشكل أو أخر.

وفي محاولة شخصية مني للإجابة عن تلك التساؤلات، وجدت أن هناك فرضية لا يمكن تجاهلها لأن يكون السيد المَسْؤُول فاسدًا في ذاته وطبيعته وتكوينه وتاريخه ونجح في الماضي في إخفاء مظاهر فساده عن الناس والأجهزة الرقابية، لكنه تمادى في الفساد والتربح من الوظيفة العامة بعد ذلك، مما سهل الإيقاع به، لتكون نهايته المبتذلة والمفضوحة عادلة وحصادًا طبيعيًا لبداياته وفساد ذاته واخلاقه ومسار حياته.

أما الفرضية الأكثر درامية وأهمية من الناحية الأمنية لفساد هؤلاء؛ هي أن يكون فسادهم مُتغيرًا جديدًا ظهر عليهم بعد توليهم المناصب القيادية وامتلاك سلطة كبيرة أفقدتهم صوابهم ببريقها ونفوذها وصلاحياتها.

وهذا لا يمنعنا من القول بأن الاستعداد للفساد كعامل ذاتي كان أيضًا كامنًا عند هؤلاء الفاسدين الجدد بشكل أو أخر، لكن منعهم من تفعيله في حياتهم وسلوكهم أنهم كانوا أقل شجاعة ومسؤولية، وأكثر خوفًا من العقاب والفضيحة، لكن ظهر في حياتهم عوامل ذاتية وموضوعية أخرى بعد توليهم مناصبهم، قامت بدور المُحفز أو المُنشط لاستعدادات الفساد عندهم.

من أبرز العوامل الذاتية الجديدة المُسببة لفساد هؤلاء، شعور المَسْؤُول بأنه أقل في المستوى المادي من بعض الذين يتعاملون معه، ويتمنون رضاه وخدمته بسبب صلاحيات منصبه المؤثرة إيجابًا وسلبًا على مصالحهم.

وعند تلك النقطة يبدأ السيد المسؤول في التفكير بأنه يملك الجاه والسلطة دون امتلاك الثروة التي تضمن له ولأسرته حياة مرفهة تُناسب موقعه الوظيفي، خاصة بعد خروجه من الخدمة وترك المنصب. وهو يفكر على هذا النحو المُضلل ليفتح لنفسه باب الفساد، متجاهلًا أن دخله الحلال من وظيفته قادر على توفير حياة كريمة له ولأسرته لو تحلى بفضيلة القناعة والرضى والاحساس بالمسؤولية تجاه مجتمعه ووطنه ودينه وربه.

ومن العوامل الذاتية أيضًا المُسببة لفساد السيد المَسْؤُول أن يسيطر عليه شعور بخيبة الأمل بعد مرور العمر في الدراسة والتحصيل والعمل من أجل حياة مهنية ناجحة ورعاية وخدمة أسرته وأولاده، دون أن يعيش حياته، ودون أن يستمتع بالمباهج والمتع واللذات التي تفتحت أبوابها أمامه بعد تولي منصبه.

وهذا الشعور يُصيبه في تلك المرحلة من عمره بالنهم الشديد، والسعي لأن يغرف في حاضره ومستقبله من كل متع الحياة قبل فوت الأوان. ولا متعة دون مال وثروة ضخمة؛ وبالتالي يجب الحصول على المال لتعويض ما فات وضمان وتأمين الحياة المرفهة في المستقبل بعد ترك المنصب.

وفي هذه اللحظة الدرامية التي يدور فيها صراع نفسي شديد داخل السيد المَسْؤُول بين منظومته القيمية والمهنية ومخاوفه، وبين الاستسلام لغواية الفساد والحياة المُرفهة، يظهر العامل الخارجي للفساد والإفساد الذي يقوم باللعب على عقد السيد المَسْؤُول الشخصية ومركبات نقصه واحتياجاته الخاصة والعائلية، ويساعده على انتهاز الفرصة التي لن تعوض للربح الضخم، والاستهانة بالمخاطر والتبعات التي تترتب على سلوك هذا الطريق الذي سيُنقله لمستوى آخر في الحياة والرفاهية في الحاضر والمستقبل.

وهذا العامل الخارجي يُمكن أن نطلق عليه اسم "الواد محروس بتاع كل مَسْؤُول"، وهو يُجسد نموذجًا إنسانيًا شائع بيننا، لا تخلو منه مؤسسة أو مصلحة حكومية في مصر. وقد جسد شخصيته ببراعة الفنان عادل إمام في الفيلم الشهير الذي حمل عنوان "الواد محروس بتاع الوزير".

ومحروس هذا إنسان فهلوي بامتياز، يُجيد اللعب على كل الحبال، ولا غاية له إلا المكسب والربح والقرب من أصحاب النفوذ والسلطة. وهو شخص ناعم، مبتسم دائمًا، يُجيد إسماع كل مسؤول ما يريد سماعه، ولسان حاله ومقاله للسيد المَسْؤُول في كل وقت: "أحلام سيادتك أوامر".

وبهذا السمات الخاصة نكتشف أن الواد محروس بتاع كل مَسْؤُول لا يملك في الحقيقة مهارات علمية أو مهنية خارقة، ولا موهبة لديه سوى براعته في ممارسة سلوك "الشماشرجية"، واستعداده لتقديم كافة الخدمات للسيد المسؤول، بما فيها الخدمات التي لا يمكن لإنسان سَوي أخلاقيًا أن يقوم بها؛ فهو أراجوز للترفيه، وصبي خدمة في القعدات الحلوة، ومشهلاتي ووسيط وسمسار على استعداد لبيع وشراء كل شيء، وتيسير مقابلات وتعاملات الزبون والمشتري، ولهذا فهو بؤرة فساد في كل مؤسسة، وفي كل سياق يوجد به.

وبناء عليه فإن الواد محروس هو أهم العوامل الموضوعية الخارجية للفساد والإفساد في بلادنا ومؤسساتنا؛ وإذا كانت أكثر آليات محاربة الفساد فاعلية ألا نسمح من البداية لشخص فاسد أو ضعيف الشخصية وغير كفء بتولي مناصب قيادية في مؤسسات الدولة، فإن الآلية التي لا تقل عنها أهمية ألا نسمح بوجود "الواد محروس" بجانب أي مَسْؤُول؛ لأنه جرثومة إنسانية ومهنية وإدارية، وعامل حاسم في تفعيل الاستعداد الكامن للفساد عند أي إنسان أو مَسْؤُول.

إعلان