لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تواترات الأشياء وبهجة الدهشة ..

د.هشام عطية عبد المقصود

تواترات الأشياء وبهجة الدهشة ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:05 م الجمعة 18 أغسطس 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


تماما كما لم يعد ضوء القمر وبهاء النجوم فى المساء يثير كثيرا من سحر الدهشة والتساؤلات كما فعل مع الإنسان الأول وعموم البشر قرونا مضت فى الحياة، فإن ألفة البشر مع المخترعات ومايستجد منها تطويرا وامتدادا لم تعد تمنحهم فضاء أو وقتا للدهشة والتوقف قليلا للسؤال عن السر الكبير فيما وراء الظواهر التى يرونها أو تخايلهم للمرة الأولى، ولعل غياب تقاطعات الدهشة الفطرية صاحبة التساؤلات والبحث عن سيرة حياة البشر هو صانع بعض القلق وكثير من الشجن وبعض الركود فى استقبال توالياتها، حيث الاستجابات أوشكت أن تكون مألوفة، لكون تجارب الفرد تراكمت مبكرا وتكثفت واتسعت حتى وهو فى مرحلة الطفولة ونمت معه مما صار يسمع به أو يتعامل معه فصنع كل ذلك مصدة صناعية فى مواجهة فعل لدهشة التلقائى الطبيعى، فأين اختفى سحر الدهشة الكامنة فى الإنسان صانعة التأمل والاختلاف والمنجزات الكونية العظيمة؟.
يكبر الطفل فى الحياة المعاصرة محملا بثقل المعرفة وتسارعات تدفقاتها من غير طلب، وتنمو معه تزامنا مخالب الاعتياد النازعات للدهشة، فقد عرف وآلف، وسمع ورأى، واختبر معيشة أو رؤية، وقد تكفلت الميديا وأخواتها من وسائل التواصل بإدخاله مختارا طائعا عوالم كثيرة، فأثقلته بالمعرفة وأبطأت استحضار دهشته بالخبرات الزائدة التى لم تنمو على مهل اتساقا مع العمر، وهل يكون لبعض عوارض الاكتئاب لدى بعض الناشئين سوى من تجليات حمولات المعرفة الزائدة وثقل التجربة وحدة الوعى مبكرا؟!
الدهشة جالبة للبهجة لزوما، فلأنها انقطاع فى مسار المألوفات والعادي من الأشياء، فتباغت تواتر الرتابة والنمط، وتصنع حضورا محببا تعرفه النفس ببهجة استقباله، لحظة أو زمنا مستقطعا يختلف عما هو مكرر أو يأخذ نمطا يمكن توقعه وترقبه وانتظاره، وكل دهشة جديدة تضخ في الإنسان أثرها بطاقة وأمل وربما الكثير من التصالح مع الحياة والتقبل، وهكذا تنشأ فيوضات الرضا فتستقر في النفس هدوءًا لتكون الدهشة شيئا مهما من ضالة البشر تستحق السعى والوعد والأمل وفرحة الحضور.
والدهشة حالة إنسانية لا يمكن اصطناعها أو عمل كتالوج لها بالمواصفات لتدخل ضمن خدمات وسلع وبضائع تجهزها الشركات والمصانع وخدمات التسويق، ولهذا تظل نادرة وعصية أيضا على الحيازة الطبقية، وتظل ممكنة أيضا منحا متساوية للبشر على عتبة الانتظار، ما دامت تمضي الحياة وتتوالد صباحاتها والمساءات، وتبقى ندرة الدهشة ومباغتاتها ما يمنحها قيمتها وعلو مقامها في مواقيت أزمنة البشر وذاكرتهم.
ولا بد أن الدهشات الأعظم حضرت مع الوجود الأول للبشر في الحياة، فكل ما قابلوه سيكون جديدا، وسيكون إحساسهم وإدراكهم لكل ما يحيط بهم من كائنات وموجودات تظلله عناصر من الترقب والأمل والخوف أيضا ويتخلل كل ذلك الدهشة.
ومما يدخل فى هذا المجال التعرف على انطباعات المولود الجديد حين يخرج إلى فضاء الكون، معرفة أول ما يشعر ويحس ويري وكيف يدرك كل ذلك، وهل تتولد حينئذ وفي اللحظة ذاتها المشاعر التي تبقي وتنمو مع الإنسان من خوف وترقب وتوقع وأمل ودهشات؟ وهل تبدأ جميعها معا في الاستيقاظ أو الظهور مع لحظة تفتح عيون الطفل الأولى وإدراك حواسه للعالم الذي خرج إليه؟، لا شيء كبير تمنحنا إياه المعارف المتاحة في هذا الصدد، لكن ما يبدو بعد ذلك من ضحك أو بكاء أو حنين لحضن الأم يعبر عن كيف تتشكل فورا ذاكرة الحياة.
ويتبقى من بعض حكايات دهشة الحياة الفطرية البسيطة دهشة ترقب طلوع النهار، عندما الكون يتأهب سكونا وتنفسا هادئا، بينما تتأمل انفصال "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، سيكون مشهد بدء الصباح هذا مدهشا كأنه ولادة جديدة للروح وهدأة في الحياة بين محطات تسارع وتدافع، مشهد يكسر اعتياد انشغالات الحياة بجملة "سبحان الله" تسرى في طمأنينة محببة.

إعلان

إعلان

إعلان