لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ضد التاريخ.. تفنيد الأوهام

د. ياسر ثابت

ضد التاريخ.. تفنيد الأوهام

د. ياسر ثابت
07:00 م السبت 11 مارس 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ربما حان الوقت لكي نقرأ التاريخ من وجهة نظر أخرى، بحيث تتاح لنا فرصة إعادة النظر في عدد من الوقائع المتداولة، وإجراء مراجعة لكثير من المسلمات وتغيير الانطباعات الراسخة في العقول.
وهذا تحديدًا ما يأخذه الكاتب مصطفى عبيد على عاتقه في كتابه «ضد التاريخ: تفنيد أكاذيب السلطة وتفنيد أوهام الشعب» (المصرية اللبنانية، 2021). في الكتاب الذي يقع في 248 صفحة من القطع المتوسط، تجد نفسك أمام قراءة مختلفة وآراء جديدة بشأن شخصيات ووقائع تبدو لآخرين محصنة من النقد، بفضل الصورة الذهنية التي رسمها لهم كثيرون في التاريخ والإعلام والمناهج الدراسية، إلى أن جاء مصطفى عبيد ليقدِّم للقارئ والباحثين قراءته الجديدة، التي تصدى فيها للسائد والمألوف، مستندًا على حقائق مدعومة بالمصادر من خطابات ولقاءات صحفية ليكشف ما وراء الستار ويزيل بعض الضباب العالق في مرايا التاريخ المغبشة.
ليس القارئ مطالبًا بالاتفاق مع كل ما يسوقه الباحث والكاتب مصطفى عبيد من آراء وقراءات وافتراضات تُساهم في تقديم رواية أخرى للتاريخ المصري الحديث، ولكن يكفي أنه فتح طاقة ولو صغيرة تسمح لنا بفهم مختلف وتصور أكثر وعيًا لحقائق التاريخ المصري، فضلًا عن أنه يُعلي من فضيلة التفكير والاشتباك مع التاريخ الرسمي.
ولأن الباحث يمتلك أدواته، فإنه يسعى إلى تفنيد الآراء السائدة والتصورات المسبقة عن شخصيات زعامات بحجم مصطفى كامل، ويرى أن الصورة الذهنية والعامة عن مصطفى كامل مُحمَّلة بمبالغات لرسم صورة غير حقيقية لزعيم استثنائي، وهو هنا يعمل على تقديم تصوراته عن هذه الشخصية عبر قراءة المراجع والمذكرات المتصلة بالشخصية ودورها الوطني، قبل وضع الأفكار والاستنتاجات على ميزان الذهب، حتى يمكننا فهم ما يسعى إليه الكاتب من تقديم قراءة منصفة لكل شخصية أو حدث في كتابه القيّم.
يقول المؤلف: «والمؤسف أن موقف مصطفى كامل من كثير من قضايا الحداثة والتقدم كان شدید الرجعية، ولا يمكن تفسيره سوی بمغازلة القطيع وإرضاء الشعبوية دون إدراك لفكرة إصلاح المجتمع ودعم تمدنه وتحرره. ونعني في ذلك بشكل رئيسي موقفه من قضية تحرير المرأة. لقد أطلق قاسم أمين دعوته لتحرير المرأة وتعليمها في سنة 1900 خلال كتابه الشهير «تحریر المرأة»، فما كان من مصطفى كامل، الذي كان يمتلك وقتها أعلى صوت مؤثر في الجماهير، وهي جريدة «اللواء» المدعومة من الخديو إلا أن وقف بالمرصاد لدعوات «أمين» ليصل به الأمر إلى تحريض الجماهير ضد الرجل» (ص 27).
ووفقا للجزء الأول من مذكرات سعد زغلول، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة «تحقيق: عبدالعظيم رمضان»، يقول سعد زغلول عن مصطفى كامل:«إنه مثل رجل أطلق صوته بالغناء، فوجد أناسًا يسمعون، فاستمر في غنائه، وصار يزيد من الصياح كلما زاده الناس إصغاء، ولم يصادف في طريقه شيئًا من العقبات، وكل ما يفتخر به، الحكم على أخيه، مع أنه كاذب في ذلك، لأن أخاه ارتكب ذنبًا وهو في العسكرية، وحوكم عليه محاكمة قانونية، ولذلك فإن أخاه الثاني ممن شملهم الاحتلال بنظره، وهو من أكبر الموظفين في نظارة الأشغال يتقاضى مرتبًا سنويًا ألف جنيه».
كان سعد يتناول في حديثه عن أشقاء مصطفى كامل قصة معروفة وقتئذ تتعلق بالضابط علي فهمى كامل وهو شقيق مصطفى، وحسب عبدالرحمن الرافعي في كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية» عن «دار المعارف - القاهرة»: «كان ضابطًا برتبة ملازم أول في الأورطة الأولى بسواكن، وفي نوفمبر 1895 صدر أمر بإحالته إلى الاستيداع، فسافر إلى مصر في 5 ديسمبر 1895، وفي 12 مارس سنة 1896 أقرت الحكومة المصرية الحملة على دنقلة، وفي 15 مارس قدّم على فهمي استقالته من الجيش، ليكون بجانب أخيه في ميدان الجهاد، فاعتبر الإنجليز استقالته من الجيش في هذا الوقت مخالفة للواجب العسكري توجب محاكمته، على الرغم من مسارعته باسترداد استقالته، وحوكم أمام مجلس عسكري قضى بتجريده من رتبته وتنزيله إلى رتبة «نفر»، وألحق نفرًا بتجريدة دنقلة».
أما الشقيق الآخر الذي أشار إليه سعد زغلول، فكان حسين بك واصف، الذي تولى مناصب مهمة برواتب مجزية نتيجة رضا الاحتلال عنه.
وغادر قاسم أمين منزل سعد زغلول باشا وزير المعارف، بعد مناقشة عاصفة جرت بينهما حول مصطفى كامل الذي توفي يوم 10 فبراير 1908، كان اللقاء يوم 14 فبراير، أي بعد أربعة أيام من وفاة مصطفى كامل، وانتقد سعد رأي قاسم الإيجابي في مصطفى.
وتوجه سعد زغلول إلى بيت قاسم أمين في يوم 15 فبراير عام 1908، فتجدد النقاش مرة ثانية حول مصطفى كامل، لكنه كان أشد عنفًا هذه المرة؛ إذ يقول سعد: «اجتمعت عليه في بيته مع صدقي بك، وجرى ذكر الوفاة، وكنت حكيت لصدقي ما كان من قاسم وسمع منه ما سمعت تقريبًا، فناقشتُ قاسم مناقشة شديدة، حاصلها أني أستغرب من رئيس لجنة الجامعة، ومن صاحب كتاب «تحرير المرأة» أن يكون له مثل هذا الرأي في مصطفى كامل، وأن يقول إنه موحد الحركة الوطنية في مصر». وواصل سعد انتقاده لمصطفى كامل قائلًا لقاسم أمين: «كيف يسند إلى هذا الشاب ذلك الأثر، مع أنه وجد قبل أن يخلق، وقبل أن يصير إنسانًا؟. أين الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وعبدالله النديم، و]إبراهيم[ اللقاني».
في كتاب «ضد التاريخ» نطالع أيضًا فصولًا قد يراها القراء والباحثون مثيرة للجدل، مثل الحديث عن الوجه الآخر للسياسي المخضرم إسماعيل باشا صدقي، والمُعاكس للصورة السائدة في الكتابات التاريخية، فضلًا عن إثارة السؤال الممنوع حول ما كان يُفترض أن يكون عليه محمد نجيب لو استمر في السلطة رئيسًا لمصر، مستعينًا بآرائه وخطبه وتصريحاته التي يرى المؤلف أنها تُنبئ عن ديكتاتور لم يأخذ فرصته.
ويُقدِّم الكتاب أيضًا اكتشافًا جديدًا حول المرأة التي قلبت حياة سيد قطب، وحوَّلته من أديب وناقد رقيق، إلى مفكر تكفيري متشدِّد. ويستدل الباحث على هذه المرأة بما أورده سيد قطب في رواية «أشواك» التي صدرت عام 1947 عن دار سعد بالفجالة، في القاهرة، وأعيد طبعها في مصر عام 2011، بعد تمكن جماعة الإخوان في مصر ووصولهم إلى الحكم، ونشرتها -حينذاك- هيئة الكتاب بمقدمة للناقد والشاعر شعبان يوسف.
تدور الرواية في القاهرة في الثلاثينيات، وتروي حكاية حُب عنيف جمع شابًا مرهف الحس، مثقفًا، نبيلًا يُدعى «سامي»، وفتاة مصرية متحررة ولطيفة تُدعى «سميرة». ورغم أن تعارف الاثنين تم بشكل تقليدي من خلال رغبة سامي في الاقتران بزوجة من عائلة مناسبة، فإن ارتباطه بها كان قويًا ومحبته لها اتسمت بالجنوح والحدة. لكن الحكاية بينهما انتهت بالفراق والألم والوجيعة بسبب تشککه الدائم في سلوكها، وتصوراته الخيالية بأنها ستخونه لا محالة.
يقول مصطفى عبيد: «وفي حقيقة الأمر، فإن سامي، بطل الرواية، لم يكن في الحقيقة سوی سید قطب نفسه، خاصة أن الأدباء في ذلك الوقت اعتادوا سرد أجزاء من حياتهم في قصص، أو روایات کنوع من الواقعية، مثلما فعل توفيق الحكيم في روايته «يوميات نائب في الأرياف»، الصادرة سنة 1937، أو مثلما فعل عباس محمود العقاد في رواية «سارة». ويؤكد على صحة هذا التصور أن رواية «أشواك» تصدَّرها إهداء من المؤلف إلى البطلة الحقيقية للقصة؛ إذ يقول فيه: «إلى التي سارت معي في الأشواك، فدمیت، ودمیت، وشقيت وشقيت، ثم سارت في طريق وسرت في طريق. جريحين بعد المعركة. لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار» (ص 120).
في فصول أخرى من كتابه، يضيف مصطفى عبيد -لأول مرة- متهمين جددًا في اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، لم يشملهم قرار الاتهام، ربما لمحبة الناس لهم، أو إعجابهم الشديد بهم، ويُقدِّم دفوعه وحيثيات بجرأة صاحب الرأي وثقة الباحث.
«ضد التاريخ» كتاب لمن يبحثون عن الحقيقة ولا شيء سواها.

إعلان

إعلان

إعلان