لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بلكونة تطل على شارع قديم .. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

بلكونة تطل على شارع قديم .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 27 أكتوبر 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المرأة السمينة ذات الوجه المتغضن، والتى يتبعثر بعض شعرها الأبيض خارجا دوما عن محاولات إحكامه المتكررة داخل طرحتها السوداء، بائعة الخضار التى لم يسمعها أحد يوما تحكى عن أهل أو أبناء لها، أو تقص هامسة بعضا من نميمة البيوت ذات الشقق العتيقة التى يحتشد بها الشارع المتفرع عن الطريق الرئيسى فى الحى القديم، حيث حكايات لا تتوقف تسمعها من بعض النساء اللواتى يجئن إليها كل صباح لشراء ما يلزمهن وقد يجلسن قليلا، يهمسن إلى جانبها وأحيانا يضحكن ثم يمضين.

وحيدة تجيء وتغادر، تبدأ سيرتها النهارية عند أول ضوء من يوم جديد، وبعد أن تودع النساء غير العاملات أزواجهن وأولادهن نحو أعمالهم ومدارسهم، أولئك القاطنات خلف جدران الشقق فى البيوت ذات الطوابق القليلة، يطمئنن دوما لوجودها الدائم، فيهرعن إليها، يشترين، وقد تطول وقفاتهن بين حكي وابتسامات وديعة طيبة.

بائعة الخضار، التى تخيرت مكانها ذاته منذ وعته عيناه، تجلس هناك عند نهاية الشارع الفرعى المتسع قليلا، لم تغير مكانها حتى صارت جزءا من ملامح الشارع وبعض مشاهد يومية من شريط تاريخ أيام ساكنيه، جالسة تستدير بنصفها الأعلى لتناول أحد الواقفين شيئا، ثم تأخذ حساب ما يشتريه، تكرر بانتظام حركة كأنها سلوك آلي بأن تفتح كيس القماش القديم، والذى تضيق فتحته من أعلى، وتُخرج منه لفة من الأوراق النقدية الصغيرة، تضم إليها أو تخرج منها شيئا، ثم هناك داخل "طوق" جلبابها تودع كيسها أعلى صدرها مختفيا خلف قماش الجلباب، هكذا تحفظ خبيئتها مطمئنة، وفقط بعد أن يخفت زحام الصباح المبكر ويمضى المشترون، تكمل ما بدأته متقطعا حين يتاح لها وقت فراغ قصير بين عمليتى بيع أو بعد حديث عابر، إذ تقوم بتفريغ القلب الحلزونى اللين لكتل الباذنجان صغيرة الحجم، والمتراصة أمامها أكواما، الباذنجان ذو اللون الأبيض المختلط بحمرة خفيفة، فتجعله صالحا للحشو، لتأخذه النسوة الموظفات، وهن عائدات من أشغالهن، يذهبن إليها، يقفن قليلا ويتحادثن معها، ثم يمضين حاملات أكياس البلاستيك ممتلئة بالباذنجان.

بائعة الخضار، تأتى كل يوم لمكانها بلا انقطاع ومنذ الإشراقة الأولى للنهار، يتزامن حضورها مع الإختفاء المتدرج للظلال الرمادية الأخيرة لسواد المساء بينما تقتحمه ضياءات الصباح الأولى، وفقط بعد أن عزم الليل أن يطوي مظلته ويمضي، دوما تجلس فى موضعها، ترفع غطاء ثقيلا قديما عن كومتها، وتبدأ فى رش قطرات من الماء على الأرض التى حول فرشتها، وتنتظر العربة الكارو، والتي حين تأتي، يهبط من أعلاها الولد ذو الجلباب الرمادى المهترئ، يضم يديه وينفخ فيهما بقوة، ثم يفركهما جلبا للدفء، يرص من حولها حزما وأقفاصا مغطاة بالقش، وبعد أن تستدير العربة، تبدأ فى كشف محتوى الأقفاص وعرضها، تكرر مشهدها اليومى، وبعد أن تنتهى مطمئنة من ترتيب بضاعتها، تذهب لتطرق الباب الصاج لدكان الفول المجاور لجلستها، توقظ العامل فيفتح من الداخل ويعلو صوته باسمها وتحية الصباح، ثم تعود إلى موضعها.

فى هذا الشارع الساكن الذى يبدأ توا يقظته، تتوالى حركات أول النهار فى تناغم يبدو أنه أزلي، تدفع سكونه وتكراره تواترات الأيام ودوران عقارب الزمان بطيئة الحركة، وتثبت مشاهده ألفة المكان واعتياد البشر، حين ينفتح أحد أبواب المنازل الصغيرة المتلاصقة، ويخرج الرجل العجوز فى ذات موعده، يلقي عليها السلام وهو ينظر نحوها، ثم يحكم شاله حول رقبته، متهيئا لكي يستقبل لفحات الهواء البارد.

بائعة الخضار، تلك التى يوما أقسمت أن تخلع كل ملابسها وهى تصرخ باكية مستنجدة- هي لم تفعل ذلك ولكنها بدت حقا عازمة- عندما حاول أحد البلطجية أن يفرض عليها إتاوة، فصرخت وهمت يأسا بمحاولة نزعها كاملة، فى تحد وتهديد له بينما اكتفى المتحلقون بالترقب فى انتظار ما سيحدث، ذلك البلطجى فاقد الإدراك، بوغت حقا بما فعلت، حدق وكأنه استفاق ثم مضى صامتا وتركها، ولم يعد إليها قط.

بائعة الخضار، التى طالما رفعت ظهرها إلى أعلى كثيرا، بينما تدلت رأسها حتى لتكاد تلامس الأرض، وهى تنهمك كل صباح مبكر في رص حزم وأقفاص الخضار، لن تعود ثانية توقظ عامل المطعم المجاور، ولن تبتسم وهي ترد الصباح على الرجل العجوز الذى يحكم شال الصوف حول رقبته وهو يمضي نحو الشارع الواسع الممتد هناك.

إعلان

إعلان

إعلان