إعلان

ﻣﺎﺫﺍ ﺣﺪث ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺧﺮﺝ ﻫﻴﺒﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺮ؟

د. أحمد عبد العال عمر

ﻣﺎﺫﺍ ﺣﺪث ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺧﺮﺝ ﻫﻴﺒﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺮ؟

د. أحمد عبدالعال عمر
07:39 م الأحد 04 سبتمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

"ﻫﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻕ ﺍﻟﺄﺧﻴﺮ لا ﻳﺰﺍﻝ ﻣﻌﻈﻤﻪ ﺧﺎﻟﻴًﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ، ﻭﻟﺴﻮف أﺗﺮك ﻫﺬﻩ اﻟﻤﺴﺎﺣﺔ ﺑﻴﻀﺎء، ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﻌﺪﻱ ﻣﻦ ﻳﻤﻠﺆﻫﺎ.

ﻭﺍﻟﺂﻥ ﺳﺄﻏﻔﻮ ﻗﻠﻴﻠًا، ثم أصحو قبل الفجر فأضع الرقوق في هذا الصندوق، وأواريه التراب تحت الحجارة الكبيرة عند بواب الدير. ولسوف أدفن معه خوفي الموروث، وأوهامي القديمة، ثم أرحل مع شروق الشمس حرًا".

قليلة هي الشخصيات الروائية الحية التي يمتد حضورها الإنساني والفكري، خارج أفق النص الروائي، لتصبح شخصيات من لحم ودم، تحس بوجودها، تحاورها، تحزن لحزنها، تفرح لفرحها، تتفهم وتتقبل ضعفها الإنساني، ولحظات جموحها وتمردها على الأرض والسماء.

والراهب المصري "هيبا" بطل رواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان، وصاحب الاقتباس السابق الذي بدأت به المقال، هو عندي أحد أهم تلك الشخصيات الروائية الحية التي كُتب لها الخلود في عالم الأدب، والتي لا يُمكن تجاوزها ونسيانها بسهولة.

وقد حاولت أن أرسم للراهب الجنوبي هيبا في خيالي صورة شخصية ونفسية، فرأيته طويلًا نحيفًا وصلبًا كنخيل الصعيد الحزين، بوجه أسمر دقيق القسمات، وعيون مغرقة في التأمل والعمق، ويملك صوتًا رخيمًا هادئًا صادقًا مؤثراً، يجعله يجذب قلوب وأرواح مستمعيه.

بالإجمال، رأيت الراهب هيبا كشخصية جوانية متأملة، يتسق جوهرها مع مظهرها، وغارقة في التفكير الباطني والحوار الذاتي، والتساؤل حول سبب الوجود، ومعنى الحياة وجدوها، ومصير الإنسان.

وكثيراً ما سألت نفسي وأنا أستعيد كلمات هيبا الأخيرة، كلما عدت لقراءة رواية عزازيل: ماذا حدث بعد أن خرج هيبا من الدير؟ وهل نجح بخروجه من الدير في أن يتخلص من مخاوفه القديمة وأوهامه، وأن يصبح بالفعل مع شروق الشمس حراً؟

لا أظن ذلك، بل أنا على يقين أنه ضاع من جديد في متاهة الحياة والدين والفلسفة وعشق المرأة، وعاش بنفس مخاوفه وهواجسه القديمة، دون أن يعرف الحرية الحقيقة، ودون أن يصل لشاطئ يقين يرتاح فيه عقله وقلبه وجسده.

ثم أدرك هيبا بعد سنوات من الضياع الجديد، أن لا خلاص له إلا بالعودة إلى مسقط رأسه بقريته في صعيد مصر، حيث المكان الذي شهد ميلاد مأساته، ليواجه نفسه، ويتصالح مع ماضيه، وليصنع قناعات فكرية وخيارات وجودية جديدة تجعل على الأرض ما يستحق الحياة، وتمنحه المعنى الذي يبحث عنه.

وهذا المصير هو قدر الشخصيات الإشكالية القلقة مثل شخصية هيبا، وخاتمة رحلة بحثها عن ذاتها وحريتها وحياتها. وقد عبر عن هذا المصير لاحقًا "كفافيس" شاعر الإسكندرية الشهير، في قصيدته المدينة، عندما قال:

سترجع إلى هذه المدينة

سترجع إلى هذه المدينة

ما من سفينة لك

ما من سبيل

حياتك التي بددتها في هذا المكان الصغير

مُبددة تجدها من جديد في كل مكان

فطلق حلم الذهاب إلى مكان آخر

طلق حلم الذهاب إلى مكان آخر.

وبالتالي، فكما كان السفر والنفي الاختياري قدراً لا مفر منه في طريق بحث هيبا عن ذاته ومعنى حياته، ستصبح عودته إلى محل ميلاده، والمكان الذي شهد بداية أزمته الشخصية، عودة حتمية للمواجهة والتصالح، والاستقرار، ورفض خيار الهروب المستمر.

ولهذا أظن أن الراهب هيبا، قد عاد بعد سنوات من خروجه من الدير إلى مسقط رأسه بصعيد مصر، حيث بدأت مأساته عندما قُتل أبيه على يد أصحاب الديانة الجديدة، بل زادت حياته مأساوية بزواج أمه من أحد قاتلي أبيه، وهي المأساة التي تشبه في بعض قسماتها مأساة الأمير الدنمركي هاملت، التي كتبها شكسبير.

وهناك حاول هيبا أن يتصالح مع ماضيه، وأن يوثق علاقته بالأرض والحياة والناس؛ فعمل بخبراته السابقة معلمًا وطبيبًا في خدمة البسطاء، وعاش حياة مثمرة نافعة للناس، وتزوج وأنجب أطفالًا ورثوا عنه حكمته وعلمه.

ومن الوارد أن أكون أنا مثلاً أحد أحفاد الراهب هيبًا، وربما بمزيد من الحفر والتنقيب أستطيع أن أجد رقوقاً أخرى روى فيها بالتفصيل بعد عودته لصعيد مصر، ما حدث له بعد أن خرج من دير حلب.

إعلان