إعلان

روافع البهجة ..

د.هشام عطية عبد المقصود

روافع البهجة ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:23 م الجمعة 16 سبتمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

"طلع عليّ النهار سهران بنور الأمل" .. تمكّن أحمد رامي من صك تلك الجملة الغنائية فمضت كأنها حكمة حياة تتقاطر رسوخا وبمثابة توقيع بشري يصف مسارات الكون غير قابل للتقليد، مانحا لفكرة الأمل مكانة تعلو فوق كل أرق وقلق وما بينهما من مكابدات البشر ومشقاتهم في طريق الحياة وهو يمضى تؤرخه التدافعات.

هذا المقطع البهي الذى غنته أم كلثوم كأنه يعيد كتابة سيرة مختصرة وحكيمة لتعاقبات الليل والنهار لدى الإنسان عبر الزمان، وحيث يصير الليل طويلا على المتعبين والحائرين والمثقلين بالانشغالات والهموم والتدبر، وحيث كل هذا السكون الذي يضفيه الليل على الخلائق وسيرة الحياة يكون مانحا لهدأة التفكير وتموضع إعادة بناء ما جرى ويجري من تفاصيل وأحداث لم يمنحها نهار السعي والانشغال والضجيج وقتا للتجمع فتصير مجالا وموضوعا، ثم يأتى النهار أو "يطلع" كأنه فعل ولادة وحضور جديد، يجسر الوصل مع الحياة إشراقا ناسيا أو غافلا عما فات ولو إلى حين، وكما يتجلى في الوصف القرآني الكريم "فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا".

كان البشر يقطعون الليل قديما عبورا سريعا قبل اختراع الكهرباء فيأوى الناس إلى النوم متفادين سيرة ومقام "طول الليل" بتواتر أشيائه والتي حملتها الأشعار والكتابات والذكريات، واقتضت حكمة الله أن يعيش البشر الليل نوما يجعل منه تعب وجهد انشغالات النهار سكنا طيبا، وإذا تأملت بعضا من سر ذلك ستدرك أن كل تعب أو مرض أو تفكير مؤرق إنما يتعاظم ليلا، ومن ثم كان قطع الليل شوط منام واحد حكمة في مجال ألا يثقل الإنسان على نفسه بالتفكير المؤرق، ولهذا كان الوجهاء والثراة وعلية القوم ممن لا تجهدهم الأعمال اليومية الشاقة التي تقتضي جهدا بدنيا جما يعانون من مظلة الليل أرقا، وفي تراث تحمله الكتب تروى الحكايات أنه عندما يبتعد عنهم النوم يحايلونه بصنع واستقدام دوائر الندماء لسبب وحيد أن يقطعوا معهم وحدة سواد الليل فلا يفارقونهم حتى إذا بزغ أول النهار ناموا مطمئنين، حتى شهريار الأسطوري استعان بحكايات شهر زاد جلبا للمنام كما يستعين الطفل بحكايات الجدة وهو مطمئن بين يديها فينام.

حظى الأطفال بسيرة بهية مع الليل وكان مفتتح "كان ياما كان" يرن فى أذن الصغار نغما فى سالف العصر والأوان، كان هذا هو المبتدأ لحكايات عظيمة وخيال رحب يتسع لأحداث تفارق المعرفة المباشرة وواقعيتها المفرطة ولشخصيات أسطورية تفعل ما يشبه المستحيل، وهكذا كبساط الريح السحرى حملتنا حكايات الجدات والأمهات بعيدا، خارج مساحة كل ما هو واقع وممكن وعادى ومألوف أيضا، فأمدت أجيالا من البشرية بطاقة للفعل وسعي نحو منجز غير عادى، وحتى تنتهى الحكاية "الحدوتة" ببسمة وأمل وعزم يوشك وفك لعقدة الصعب والمستحيل، بينما تتكفل هدهدة تمسح الوجه والجبين بمنح مزيد من الطمأنينة فينام الطفل هانئا يحلم بالأمل المبهج الآتي وهكذا سرت الأيام البعيدة.

وقد جاء العلم ساعيا لحل تعارضات حيرة الإنسان ومعايشته لليل وما يتخلله من عوارض ظواهر الحياة التي لم يألفها أو يتعامل معها أو تصعب عليه فهما، وكانت سابقا مجالا لحيرته وخوفه وترقبه تاريخيا، حتى إذا قربتها الملاحظة والمعرفة منه ففهم صيرورتها وآلية عملها صارت عادية وبسيطة بل وأيضا بديهية، لا تخيف بل تضيف، وهكذا فعل العلم بالليل ومعه بالبشر والحياة، فبعد أساطير الليل التي عرفها البشر قبل اختراع الكهرباء وحكايات الجن والعفاريت التى تتجول فى الظلمات مد العلم فى طاقة النهار ليلا بالإضاءة الصناعية وطاقة العمل المستمرة ثم أضفى عليهما من طمأنينة زحام النهار ليلا ومضى كل ذلك، لكن هل غير كل ذلك كثيرا من طبيعة ونفسية الإنسان ليلا شيئا؟!

احتاج الإنسان دوما لروافع الأمل والحلم حتى في ضوء النيون وسهر الليل صخبا، روافع الأمل تلك التى لولاها ما تقدم البشر وما اخترعوا، بالحلم والعلم عرف الإنسان صناعة السفن والطائرات فسافر وحلق وطاف فوق الكون، فتأكد يقينا أنها كروية كما قالها جاليليو ذات زمن بعيد فأنكروه، وربما تعد أحد فضائل العالم هى فى الحفاظ على طاقة الحلم بتزويد طاقة الضوء التي تخفت مع كل ليل بحثا واكتشافا وتحليلا ورؤية.

ولعل الأطفال الصغار أقرب إلى فطرة الإنسان الحقيقية التى تحلم وتثق وترى البعيد، ومن هنا ربما جاء كتاب الحكايات التي روتها الأمهات والجدات للصغار ليلا تنداح فيها الصعاب ويفوز بثمرها الطيبون المخلصون الذين حلموا وعملوا فاطمئنت نفوسهم، فيشعر الأطفال بالأمل وأن العالم أجمل والكون براح وأن الأيام مانحة لا محالة.

إعلان