لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أبو القاسم القباري .. وحيدُ مع الواحد

د. أحمد عمر

أبو القاسم القباري .. وحيدُ مع الواحد

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 21 أغسطس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُعد قصيدة "المقبرة البحرية" للشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) واحدة من أجمل وأعمق القصائد في الشعر الفرنسي المعاصر. وهي قصيدة تُعبر عن مزاج وشخصية بول فاليري وفلسفته في الحياة والموت؛ فقد كان شخصية تميل للعزلة وحياة التأمل والتفكير والعزوف عن دواعي ومظاهر الشهرة والأضواء.

ولهذا تمنى في تلك القصيدة أن يُدفن بعد موته في "المقبرة البحرية" بالمدينة التي ولد بها، وعاش فيها جزءًا كبيرًا من طفولته وصباه وشبابه الباكر، وهي مدينة "سيت" بالجنوب الفرنسي على شاطئ البحر المتوسط، ليكون قريبًا في موته من البحر.

وكم كان من دواعي سروري اكتشاف أن زاهد الإسكندرية الشيخ أبو القاسم بن منصور بن يحيى القباري (587 – 662 هجرية)، وهو صاحب المقام والمسجد الشهيرين بغرب الإسكندرية، قد سبق بول فاليري بقرون عديدة في التصريح بالرغبة في أن يضم جسده بعد موته مقبرة على شاطئ البحر.

وهي الرغبة التي تُعبر عن حس إنساني وفلسفي وجمالي راقي عند أبي القاسم القباري، كما تُعبر عن ورعه الشديد ورغبته في البعد عن الشهرة والرياء، وهو الصوفي الكامل الذي أخلص في العمل، واجتهد في قطع الأمل، ومال إلى العزلة، واستعد للرحلة، وأراد أن يكون وحيدًا مع الله الواحد في حياته وبعد مماته.

ويتضح لنا حلم القباري بالمقبرة البحيرة، من مقولة له رواها عنه تلميذه ناصر الدين بن المنير، المتوفى عام 683 هجرية، جاء فيها:

"علم الله مني أنني أوثر الوحدة في الحياة وبعد الممات، وألا يُبَدع أحد بي.

ولو كان الشرع يُسوغ أو كان القدر يفوض حكم النفوس لأربابها، ما قدمت أمرًا على الخروج من هذه الأسباب على الفور، والتوجه إلى هذا البحر على مسيرة يوم من العمران، وأن أغتسل في البحر للموت، وألتف في عباءة وأعمد إلى مغارة من تلك المغارات، فأدخلها وأصلي فيها ركعتين، وأمتد للموت إلى أن يأتي الوقت المعلوم".

وفي واقع الأمر، فقد كان الشيخ القباري منقطع النظير في زهده وتعففه وورعه، كما كان صاحب فلسفة مميزة في الاستغناء، ولهذا قال:

"وزنت الأحوال بميزان الاعتبار، فوجدتها لا تصح إلا بالعزلة، والعزلة لا تصح إلا بقطع الطمع في الناس. وهذا الطمع على ثلاثة أوجه: طمع في أموالهم، وطمع في إقبالهم، وطمع في الارتفاع بينهم.

والأول والثاني ظاهران للخلق، والثالث لا يطلع عليه إلا الله تعالى.

ولكن من رأيناه سالمًا من الأول والثاني حسّنا الظن به، ورجونا له السلامة من الثالث.

ومن رأيناه واقعًا في الأول والثاني، أسأنا به الظن وعرفنا أنه واقع في الثالث".

وقد دفعه ميله للعزلة والبعد عن الناس وترك حب الشهرة والارتفاع في المنزلة بينهم إلى الإقامة الدائمة ببستانه الذي استصلحه بغرب الإسكندرية من الأرض المتروكة والمباحة، التي امتلاكها بقاعدة إحياء الأرض الموات، بعد أخذ إذن السلطان، وكان يعمل فيه بمفرده مع خادم له، ويقتات منه ويطعم الفقراء من ثماره.

وعلى باب هذا البستان النائي كان يقف الأمراء والكبراء بل سلاطين الدولة، فلا يؤذن لهم إلا نادرًا، وإذا دخلوا عنده ارتعدت قلوبهم من قوته وشدته، واستغربوا استغناءه التام عما يملكونه من مال وجاه وسلطان.

وقد عاش القباري في تلك الجهة المنقطعة الموحشة، لسنوات، فريدًا وحيدًا مع الله الواحد، رغم اختلاف الأوقات وترادف الآفات، وهو مصون في رعاية الله وأمنه، بلا زوجة أو ولد، إلى أن لقى الله تعالى مطمئنًا ومحروسًا بعين عنايته سنة 662 هجرية، ودفن في بستانه، وأقيم على ضريحه المسجد الموجود لليوم في حي الورديان.

ثم أقبل بعد ذلك أهل الإسكندرية على السكن حول القبر والمسجد في تلك المنطقة الموحشة، فعمر الحي، وأصبح اليوم من أكبر أحياء الإسكندرية؛ فرحمة الله على زاهد الإسكندرية الصوفي البستاني، الشيخ الورع الجليل أبي القاسم القباري، ونفعنا الله بسيرته وعلمه وأقواله.

إعلان