لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 أمل دنقل والصعيد والإسكندرية

د. أحمد عبدالعال عمر

أمل دنقل والصعيد والإسكندرية

د. أحمد عبدالعال عمر
06:53 م الأحد 17 يوليو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"أحب المطر، أحب أن يغسل وجهي، ويغرق شعري ورأسي. في الصعيد نتمنى قطرة منه، وهو هنا في هذه المدينة مباح حتى للبحر الفسيح المليء بالماء، وتظل الأرض عطشى بطول الصعيد".

هذا جزء من حوار دار بين الشاعر الجنوبي الراحل "أمل دنقل" والراحل الأستاذ "سليمان فياض"، وهما يسيران معًا تحت المطر بشارع بورسعيد بالإسكندرية في شتاء ١٩٦٢.

وهو حوار يُلخص مفهومي عن "الجغرافيا غير العادلة" ومناخها الخاص، عندما تصبح ثرية وحميمية في بعض المناطق من البلد الواحد، وفقيرة وقاسية في مناطق أخرى.

وكيف يؤثر هذا الاختلاف بالإيجاب والسلب على أرواح وعقول وأفكار وثقافة الناس الذين يعيشون في سياق تلك الجغرافيا.

وأظن أن شاعرنا الجنوبي الراحل "أمل دنقل" كان يعي تمامًا سمات وقيود وقسوة "الجغرافيا غير العادلة"؛ ولهذا جاء حديثه عن "المطر" في كلماته السابقة مع سليمان فياض حديثًا رمزيًا متخمًا بالكثير من الدلالات عن عمق إحساسه بقسوة الجغرافيا والمناخ والحياة في الصعيد، وكيف يؤثر ذلك بالسلب على عقول الناس وأرواحهم وشكل ونوعية حياتهم وثقافتهم.

وأظن كذلك أن إحساسه بقسوة تلك الجغرافيا غير العادلة، كان دافعه الأول للهروب منها والحضور للإسكندرية عام 1962، ليقضي بها عامين كان لهما أعظم الأثر في إثراء تكوينه الروحي والفكري وإحساسه بالحياة، قبل انتقاله للعيش بالقاهرة، وإقامته بها حتى وفاته عام ١٩٨٣.

في هذا الصدد يقول الأستاذ الدكتور جابر عصفور في مقال له بعنوان "إسكندرية أمل دنقل" نُشر بجريدة الأهرام في يناير 2017، موضحًا تأثير الإسكندرية في حياة وعقل وروح أمل دنقل:

"كان لمدينة الإسكندرية فضل كبير على شعر أمل دنقل، فهي التي نقلته من وعي القرية (القلعة) والمدينة الصغيرة في الجنوب (قنا) إلى وعي المدينة الكوزموبوليتانية الزاخرة بالتنوع الخلاق للأعراق والجنسيات".

إذن، فقد كان الوعي المديني الخلاق، هو جوهر ما منحته الإسكندرية لأمل دنقل، وهو الوعي الذي حرر روحه وعقله من القيود الفكرية والثقافية التي تربى عليها في قريته ومدينته الصغيرة.

وهو كذلك الوعي الذي أثرى حياته وثقافته وشعره، وجعله روحًا جنوبية وعربية وسكندرية منفتحة، ترفض الاستسلام لقبح وظلم الأمر الواقع، وتدعو للتغيير والحداثة والتنوير، والجمع بين الأصيل الذي يُحافظ على الهوية، والمعاصر الذي يُجدد ويثري الوجود الخاص والعام.

وللأسف الشديد، فإن هذا الوعي المديني لا يزال - بعد كل تلك السنوات - غائبًا عن الصعيد بتأثير الجغرافيا القاسية، وبتأثير التقاليد المحافظة المنغلقة، وشيوع أنماط الفهم المغلوط للدين ووظيفته في الحياة.

ولا يزال الصعيد رغم الجامعات الإقليمية العديدة التي أنشئت فيه، صاحب وعي قروي ريفي، وسلفي الفكر والرؤية حتى في الجزء الأكبر من قياداته الجامعية والسياسية والتنفيذية، التي كان يقع على عاتقها إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع، وتفكيك أنماط وقيود ثقافته التقليدية.

ولهذا فالأرض اليوم لا تزال عطشى بطول الصعيد لمطر التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تُغير حياة أبنائه للأفضل، وتُقلل من قسوة بيئتهم، وتُثري وجودهم، وتنقلهم من الوعي الريفي المُغلق إلى الوعي المديني المفتوح، وتمنحهم فرصًا جديدة للعمل وعيش الحياة والاستمتاع بها.

وبهذا يمكن أن نقضي على عزلة الصعيد، وعلى إحساس أبنائه التاريخي بالمظلومية، ونقضي كذلك على تغريبة الصعيدي المستمرة عن أرضه بحثًا عن جغرافيا أكثر رحابة وحميمية، وبحثًا عن فرص حقيقية أكثر للتحقق المادي والمعنوي.

إعلان