إعلان

  زمن التحولات.. في "مسك الليل"

د. ياسر ثابت

زمن التحولات.. في "مسك الليل"

د. ياسر ثابت
08:03 م الأحد 05 يونيو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

تمنحك هذه الرواية فرصة نادرة لرؤية ذاتك أو الآخرين في مرآة الحقيقة، بدلًا من أن تعيش محترقًا بالسؤال: هل عشتُ هذه الأوقات فعلًا؟

وإذا كانت الكتابةُ لعبة الأحياءِ، فإن نادية رشاد تقتسم مع القارئ حِصّتَه من الأحلامِ والكوابيس.

"مسك الليل" (دار الشروق، 2022) ليست حكايةً عمياء ولا هي أُحجية تنتظر من يفك طلاسمها، بل فعلُ تعريةٍ للمجتمع في لحظات الخوف والأزمة. إنّها حياة بأكملها تتناوب في الصدّ، لتنجوَ بالهجوم كردّةٍ أو انفعالات حارّة.

تقف نادية رشاد مع بطلات روايتها المتعددة الأصوات، في موقع المراقب للتحولات السياسية والمجتمعية التي شهدتها مصر، قبيل ثورة 25 يناير 2011، وما أعقبها من أحداث هزت مصر.

عندما يصطدم القارئ بالعتبة الأولى للرواية، العنوان "مسك الليل" يخطر في باله للوهلة الأولى أنها تتحدث عن تلك الشجيرة ذات الرائحة الفواحة، التي تطلق أريجها في المساء. من هذه الشجيرة دائمة الخضرة، سريعة النمو وكثيرة الفروع، تجد دلالات أعمق من مجرد اختيارها عنوانًا للرواية؛ إذ نرى في جوهرها أزمة بطلات الرواية اللاتي ينتمين في معظمهن إلى طبقة موسرة.

"مسك الليل لا تتفتح أزهاره إلا ليلًا وحتى الفجر تقريبًا. لا رائحة له الآن مع أنه يُوصف كعلاج نفسي، وما زرعته ضحى إلا لعلمها أن كل واحدة من صاحباتها لديها ما يُمرضها نفسيًا. لكنه لا يعمل لحسابنا بل لحسابه. له اسم آخر هو كولونيا، وثالث نجمة الليل. لكني أحبُّ اسم مسك الليل أو حتى مسك الختام. نحن لن نبيت إلى جواره حتى تشفينا روائحه الليلية الجميلة، لكن يكفينا منه بعض الشذى حين يريد" (ص 18-19).

في الرواية التي تقع في 225 صفحة، تسعى الكاتبة إلى إذابة أو تذويب الإيقاع في تلافيف النسيج السردي، محقّقة بنية إيقاعية ضمنية فنيّة، مع اهتمام دقيق بالتفاصيل كما يليق بامرأةٍ وكاتبة وممثلة.

في تقنيات السرد، تبدو نادية رشاد في روايتها الأولى واعيةً تمامًا بما تُقدِم عليه، ولا يمكن أن تنفي عنها صفة الحذر من التورط في إبداء آراء أو أحكام، فتكتفي بتجسيد صراع الأفكار والانتماءات والمشاعر على لسان بطلاتها. كما يظهر في النص الروائي أن المؤلفة تدرك جيدًا الخارطة الاجتماعية والأيديولوجية المعقدة للمجتمع، فنراها تركز على التقاط مظاهر سوسيولوجية وانزياحات في القيم وتهتك في المجتمع والإنسان، خصوصًا خلال الأيام التي تلت 25 يناير.

إلا أن البداية التي تمهد لتلك الأحداث تستحق التوقف عندها لفهم شخصيات الرواية، والنساء هن الأساس في العمل كما معظم كتابات نادية رشاد السابقة.

في لقائها بالمصادفة داخل النادي مع "شريفة" ابنة جارة في منزل الأم، تجد العازفة الموسيقية "أحلام" نفسها أمام عالم جديد يضم مجموعة "صديقات دائمات يلتقين بشكل يومي أو شبه يومي" (ص 5). تتطوع "شريفة" للتعريف بالمجموعة: "ضحى قلب الشلة النابض والرابط بين أفرادها، وهي عضو مجلس إدارة النادي لمدة تفوق العشرين عامًا، و"هذه سوزان هانم" و"أميرة المحجبة" (ص 6-7).

تحدد "أحلام" طريقة التعامل مع هذه المجموعة: "سأحاول أن أتجنبهن. لا أحب مخالطة من يتباهين بقدرتهن الشرائية. سيشعرنني بالدونية والحرج ولا مجال في حياتي للمزيد من المشاعر السلبية. أنا مريضة اكتئاب تفاعلي ولا أريد تفاعلًا مع من يزدن اكتئابي" (ص 7-8).

المفارقة أن الرواية وهي تتناول ثورة 25 يناير 2011 جعلت "أحلام" تقف في معسكر المتظاهرين، في حين مالت بقية بطلات الرواية من صديقات النادي إلى المعسكر الآخر. وما بين المخاوف والتحذيرات وحسابات الانتماءات الطبقية، تطفو على السطح رؤية بطلات الرواية للمجتمع والسياسة.

في ظل الأحداث المتسارعة، تصرخ "سوزان": "أريد أن أغادر مصر.. أريد أن أسافر. المستقبل على كف عفريت" (ص 54). سوزان التي تقر بأنها "كنتُ مرفوضة من المصريين في السعودية لأنني من أسرة إقطاعية وعاطلة بالوراثة" (ص 70)، تقول: "زوجي كان طبيبًا ولا شأن له بالسياسة مثلي، لكن السياسة هي من تدخلت وفرضت نفسها على حياتينا" (ص 71).

في حياتها الخاصة، تشعر "أحلام" بالخذلان: "جهامة "توفيق" ساعدتني على أن أتحجر" (ص 45)، و"توفيق لا يخرج عن صمته. حين تزوجنا كنت قد طمعتُ في حُب لا يبلى. نعم، أعطاني هذا الوعد، وإن لم يشاركني في إعداد مكان لهذا الحُب. اعتذر بضيق ذات اليد، وقبلتُ، بذلتُ كل ما في وسعي. لم أطلب منه شيئًا، جهزتُ قفص الزوجية الذهبي المتوهج حُبًّا، حين دخلناه معًا وجدته صدئًا. زوجي غير قادر على العطاء، لا بماله ولا بمشاعره، صادني كذبابة في خيوطه العنكبوتية" (ص 35).

الدموع سفينة مثقوبة والذكريات أشرعةٌ ممزقة.

نلتقط جانبًا من شخصية "ضحى" حين تقول:

"عدتُ للمنزل، فتحتُ غرفتي بالمفتاح. نعم، كان هذا حلًا مُسكنًا. غيّرت المفروشات وأرسلتها للمغسلة، بعد عودتها رششت عليها بعض الكولونيا قبل وضعها في الدولاب. الموبيليا في غرفتي نالت ما تستحق من التنظيف والتلميع بمُلمع الموبيليا، حين أدخل غرفتي أحشر منشفة تحت الباب حتى لا تقتحمها رائحة دخان سيجار زوجي، لكن لا بدّ من فترة نلتقي فيها أحيانًا عندما نأكل معًا في غرفة السفرة أو أمام التليفزيون، في غرفة المعيشة أو صالة الشقة" (ص 14).

أما زوجها فرأيه واضح في تصرفاتها: "انسحبتُ إلى غرفتي وهو يُشيعني بدعابة، سأعتبر غرفتك كغُرف العمليات والإنعاش. غرفة معقمة لا بدَّ أن أستحم بالديتول قبل أن أقتحمها" (ص 14).

لكن في ظل ما جرى بدءًا من 25 يناير، تلاحظ "ضحى" تغييرات داخل البيت: "زوجي لا ينام.. زاد تدخينه وشربه.. كان وزيرًا لمرتين من قبل، ولا يعرف: هل ينبش من يُصفّون الحسابات باسم الثورة في أوراق الوزراء السابقين" (ص 72).

ولأنها قائدة المجموعة، فإنها ترصد تحولات في محيطها؛ إذ تقول:

"تتصل بي شريفة، بدأت تلاحظ أو تركز على أن زوجها ليس كعادته، شروده وبطء حركته يشغلانها. ربما كان مريضًا بالاكتئاب. ومن لا يكتئب في هذه الظروف! بُعدهم عن منزلهم والعيش في كنف "إدوارد" يعطيهم الأمان، لكن لا بدَّ أن بيته أوحشه. "أميرة" أيضًا تشعر باختناق، تريد جناحين لتُحلق بعيدًا عن الكرة الأرضية، رغم أنها الأكثر تدينًا وتسليمًا بإرادة الله" ص 75).

في ذروة الأحداث، نجد الحيرة تمزق الجميع:

"اتصال صاحباتي بي يعيدني إلى ما غاب عني، "سوزان" تريد أن نلتقي في حديقة النادي، في ركن مِسك الليل خاصتنا. تركتْ لي أن أتفق مع المشرف على المطعم لإعداد ما سنأكل! ابنتها اختارت أحد أيام إجازتها من شركة الأوراق المالية التي تعمل بها، لكن "أميرة" رفضت، كانت غاضبة، وفي حِداد على أختها التي ماتت بأسرع مما تصورت. آلمني أن الظروف لم تسمح لنا بالوقوف إلى جانبها، لم أتصل بأحلام. وما دامت "شريفة" و"أميرة" لن تحضرا، وأنا نفسي في حالة تشتت والمخاوف تحيط بي، فلمَ أبلغها الدعوة؟ "أحلام" كما عرفتُ من "شريفة" مُدرسة موسيقى، وكما رأيت جميلةجدًا في هذا العمر، فكيف كانت وهي شابة في العشرين؟! أعرف أنها "مهجورة" بالرغم من جمالها وحساسيتها كموسيقية. نعم، هي زوجة هجرها زوجها الناشز وعاش وحده في شقة مستقلة، لا أريد أن تزورني في وجود زوجي، أغار من جمالها وأخشاه" (ص 75).

أما "أميرة" فمشاعرها تحمل مرارةً خاصة: "عدتُ إلى المنزل، منزل الأسرة القريب جدًا من النادي، لم أُرِد دخول شقتي حتى لا أصطدم بابني. صعدتُ إلى شقة أخي عثمان" (ص 22).

ابنها المدمن هو صداعها الدائم، وأحزانها الشخصية لا تجعلنا ننسى هيمنة الفكر الأصولي في العائلة، باستثناء الابن الذي غاب في عالم الإدمان.

مشاعر إعجاب "أميرة" بصديقتها "ضحى" تخالطها الغيرة؛ إذ نقرأ: "كدتُ أحسدها" (ص 20) و"ضحى! كيف تستطيع أن تقود ولا تُقاد؟ لِمَ هي بهذه المهارة ولِمَ أنا دائمًا بحاجة إلى من يحدد لي خط سيري" (ص 19).

لا تكف أرجوحة الحياة عن الارتفاع والصعود بنا وبعلاقاتنا مع الآخرين؛ إذ تقول "أحلام" قرب النهاية:

"اقتربتْ مني أميرة، ابنها سيحتفل بالعام الجديد في أحد الفنادق مع أصحاب له من لبنان، لم تقُل هذا بحياد، لديها ما يؤلمها. "شريفة" تدور حول "صبري" كفراشة حول مصدر ضوئها. "سوزان" تلقت مكالمة من أحفادها بمناسبة العام الجديد. "بثينة" تليفونها لا يكف عن الرنين، وهي ترد وتسير هنا وهناك بعيدًا عن الأصوات العالية، وبين الحضور، وهي تشعر أن الليلة هي ليلة تتويجها، وأنها استقطبت "المعارِضات"، ثم نادت أن حانت ساعة اللقاء على مائدتها العامرة، لكن حفيدتي اللاهية نظرتْ جهة الباب، ثم تحركت تجاهه.. هرولتُ خلفها؛ فالباب ما زال مفتوحًا. حفيدتي استجابتْ لمن مدت لها يدها منادية. هتفتُ بصوتٍ لم أعرف كيف غطى على اللغط.. "ضحى"!" (ص 225).

في الرواية نساء في مواجهة تحول سياسي واجتماعي مزلزل، وفي صفحات "مسك الليل" لا حكمة لهن سوى العاصفة.

إعلان