لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

يوسف إدريس.. «اللص» الذي أحببناه!

د. ياسر ثابت

يوسف إدريس.. «اللص» الذي أحببناه!

د. ياسر ثابت
09:42 م الأحد 17 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من قصص «أرخص ليالي» إلى «بيت من لحم»، ومن رواية «الحرام» إلى «العيب» و«النداهة»، يبدو يوسف إدريس واحدًا من أهم الكُتَّابِ والروائيين الذين أنجبتهم مصر والعالم العربي، وأكثر كُتَّاب القصة والرواية اقترابًا من القرية المصرية وهمومها؛ لذا لُقِّبَ ﺑـ«تشيخوف العرب»، نسبةً إلى الأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف.

بأسلوب روائي، يُقدِّم الصحفي الشاب بشري عبدالمؤمن كتابه «أنا يوسف إدريس»، (دار ريشة، 2021)، الذي يتحدَّث عن يوسف إدريس كما لم نعرفه من قبل، ويكشف ببراعة الكثير من معاركه المعروفة والمجهولة، خصوصًا في فترة الخمسينيات والستينيات، فترة الزخم الثقافي الأكبر في تاريخنا الحديث، كما يروي الحقائق ويفند الشائعات عن مواقفه وعلاقاته مع كثيرين من نجاة الصغيرة إلى نجيب محفوظ.

وعبر حوالي 300 صفحة من القطع المتوسط، نتابع رحلة ممتعة تتيح لنا التعرف عن قرب إلى يوسف إدريس وعالمه الشخصي والأدبي، ومدى اشتباكه مع عصره ومصره.

يؤكد بشري عبدالمؤمن شغفه بتقصي سيرة الروائي والقاص الكبير يوسف إدريس (1927-1991)، قائلًا: «على مدار شهور عشت في أرشيف يوسف إدريس، حاورته، كنت أذهب يوميًا إلى الصحف كأنني على موعد مع إدريس ذاته، للدرجة التي جعلتني أتساءل: ماذا سيرتدي يوسف في لقائنا اليوم وهو الذي استقبل مبارك وحافظ الأسود بـ«الشورت»؟!» (ص 14).

يقول عميد الأدب العربي د.طه حسين: «إن يوسف إدريس قد خُلق ليكون قاصًّا وكاتب مسرح، أو كأنه قد وصل بقوة حدسه إلى أسرار القَصِّ والكتابة وبلغ بهما حدَّ البراعة».

ربما يتيح لك الكتاب فرصة قراءة قصته القصيرة «الخدعة» لأول مرة منذ نشرها في «الأهرام» بتاريخ 4 مايو 1969، وقد تُدهشك في هذا الكتاب تأويلات الرموز السياسية في قصص يوسف إدريس.

تكشف الفصول التي أوردت علاقة يوسف إدريس بنجوم الفن والشخصيات السياسية سمة مهمة في شخصيته، فقد كان حار الدماء ومكشوف الأعصاب، ولكنه مع ذلك طيب القلب وخالٍ من الأحقاد.

كما قد تستوقفك عبر صفحات الكتاب صداقته بالشاعر أمل دنقل، الذي كتب مقالًا في «الأهرام» يعد خطابًا مفتوحًا إلى رئيس الوزراء د.فؤاد محيي الدين بشأن ضرورة تكفُّل الدولة بنفقات علاج هذا الشاعر خلال رحلة مرضه الأخيرة (ص 206-208).

نتعرَّف بقلم يوسف إدريس ومن مذكراته إلى ملامح طفولته المبكرة.. أول عقاب وأول لقب سيئ السمعة أُلصِق به في المدرسة، كما يتطرق الكاتب إلى مباهج الطفولة ومصاعبها غير المبررة خاصة مع حالة عائلته المادية الميسورة.

وتتاح لنا فرصة الاطلاع على معاناته في الطفولة، حين تعرّض لاتهام كاذب بأنه سارق كتب زملائه، وتوقيع العقاب عليه، فضلًا عن اضطراره إلى تحمُّل لقب «اللص» لمدة ثلاثة أعوام في المدرسة!

يُعلِّق يوسف إدريس على الواقعة المحزنة في مجلة «نصف الدنيا»، قائلًا:

«لم يكـن التلامذة في حاجة إلى مـادة جديدة لسخريتهم مني، فطربوشي مطبّق من التلامذة الكبار ذوي الشـوارب، كلما رأوني كبّوا بأكفّهـم الطربوش حتى أصبح مضحكًا فعلًا، وحيـن أرى الآن صوري في الشـهادة الابتدائية، بالطربوش المطبّق، أتذكر كيف كنـت مذلولًا ومهانًا، وجاءت كلمـة (اللـص) لتُغرقني في بِركة أخرى نتنة الرائحة« (ص 27).

ويشير المؤلف إلى الدور المؤثر الذي لعبته «ملكة» جدة أمه في تشكيل وعيه. فقد عاش طفولته مع جَدَّتِه بالقرية، وأَكمل دراسته بالقاهرة، ونظرًا لحُبِّه الجمِّ للعلوم، التحق بكلية الطب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، التي شَهِدت نضالَه السياسي ضد الاحتلال البريطاني مِن خلال عمله سكرتيرًا تنفيذيًّا للجنةِ الدفاع عن الطلبة، ثم سكرتيرًا للجنةِ الطلبة. وفي عام 1951 حصل على درجةِ البكالوريوس في الطب مُتخصِّصًا في الطب النفسي، وعُيِّنَ طبيبًا بمستشفى قصر العيني، غير أنه استقال منها عام 1960 وقرَّرَ التفرُّغ للكتابة.

في الفصل الثاني نتعرف إلى علاقة يوسف إدريس بالفن والفنانين، ونكتشف أنه حاول التمثيل بالفعل في إحدى مسرحيات المسرح القومي، لكنه ارتبك وأخطأ بالنظر في عيون الجمهور (ص 89).

يقول المؤلف:

«رأيته وهـو يتخـذ قرارًا حاسمًا في سنوات اكتشاف الذات حين قـرر أن يخوض تجربة فريدة من نوعها في حياته وهي التمثيل!

ورأيته وهو يرفض بعـد سنوات دور البطولة الذي منحه إياه يوسف شاهين فافترقا وفكّر في الإخراج! شـاهدته وهـو يدخل باب السـينما الهائل على يد فاتـن حمامة، وشـاهدته أيضًا وهـو يراها بعـد سنوات ممثلة العطف! وللمرة الأولى تعرفـت على رأيه في كلمات الأغاني وألحانها، مـن محمد عبده لأم كلثوم أمريكا!» (ص 15).

نتعرف أيضًا إلى أقرب أصدقائه من الوسط الفني وظروف التعارف، ومن ثم الصداقة والمواقف المؤثرة في علاقته ببعضهم مثل فاخر فاخر، الذي تعلّم منه أن «الفن هو قمة الإخلاص» (ص 63)، وعلاقاته الوطيدة بنجوم الفن مثل فاتن حمامة ونادية لطفي، وكذا أبرز المخرجين وأهم المواقف في تصوير الأفلام المأخوذة عن قصصه.

ويتطرق المؤلف إلى ظروف إنتاج بعض الأفلام المأخوذة عن أعمال ليوسف إدريس، بدءًا من فيلم «لا وقت للحب» (إخراج صلاح أبو سيف، 1963)، بطولة رشدي أباظة وفاتن حمامة، والمشروعات غير المكتملة عن هذه الأعمال.

ومن خلال لقاءات يوسف إدريس ومحاوراته مع نجوم الفن، يتضح لنا رأيه في قامات فنية كبيرة، وسر هجومه على البعض مثل محمد عبدالوهاب، وأسباب هذا الهجوم.

وإذا كنا نعرف إعجاب يوسف إدريس بصوت أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، فإن الأديب الكبير يدافع في مقال له بعنوان «لماذا تحتقرون أغنية لولاكي؟» في جريدة «المساء» بتاريخ 13 يناير 1989، عن انتشار أغنية علي حميدة «لولاكي» فيقول:

«فانتشـار «لولاكي» لم يأتِ عبثًا أو صدفة أو ضربة قدر ولا بيعت منه خمسة ملايين أسـطوانة في شهر واحد في مصر عبثًا، إنما جـاءت اسـتجابة لحاجـة كان يبحـث عنهـا النـاس، ومـا إن سـمعوها حتـى اسـتجابوا لهـا» (ص 88).

كما يكشف في هذا المقال عن العناصر الفنيـة الشـبابية التـي كان يتابعهـا، فيقـول:

«هنــاك شباب ممتازون جدًا، ولكن هذا ينصب على اللحظة الحاضرة وتظل مشكلتهم هي الاستمرار، وأنا أحِبُّ من الممثلات يسرا ونورا، وأحِـبُّ مـن المطربين محمـد عبـده ومحمـد منير ومحمد حمام وعلي الحجار، وأحِـبُّ عزيـزة جـلال ذات الإمكانيات الصوتيـة الخطـرة، والحنجرة التلقائية غير المدربة» (ص 86-87).

وبعدها نتعرف على يوسف إدريس السياسي المحنك أحيانًا وغير المحنك في كثير من الأحيان.

ولا يغفل بشري عبدالمؤمن عن إلقاء الضوء على علاقة يوسف إدريس برؤساء مصر المتتالين بداية من جمال عبدالناصر مرورًا بأنور السادات ووصولًا إلى حسني مبارك، ورأيه في كل رئيس، وأسباب صدامه المستمر معهم. ويتكلم عن أسباب نقل السادات له من وظيفته في «المؤتمر الإسلامي»، كي يتفرغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسم السادات!

ويحكي الكتاب عن ظروف دخول يوسف إدريس مؤسسة «الأهرام» ومن ثم خروجه منها بعد أعوام.

وبعدها أتاح لنا الكاتب فرصة التمعن في تفاصيل الصراع الثقافي الأكبر وما أثير حول أحقية يوسف إدريس بجائزة نوبل للأدب، وما أشيع عن هجومه على نجيب محفوظ بعد فوزه بالجائزة. أفرد هنا الكاتب كل الحقائق سواء من الصحف أو شهادات المعاصرين ورد كلٍ من يوسف إدريس ونجيب محفوظ على ما أثير في هذا الشأن.

ولعله من المهم أن نورد هذا الجزء من الحوار الذي أجري مع نجيب محفوظ بعد يوم واحد من تشييع جنازة يوسف إدريس ونُشِر في مجلة «المصور» بتاريخ 9 أغسطس 1991، وجاء في تعليق نجيب محفوظ فيه على سؤال عن حقيقة غضب واحتجاج يوسف إدريس بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل للأدب:

«ثانيًا: ليس عندي استعداد للغضب من يوسف إدريس بصراحة، لماذا؟ لأن يوسف إدريس عصبي، والعصبي يجب عليك أن تعامله في هذا النطاق، خصوصًا أنه يندفع جدًا ثم يروق، ولا يثبت على حالته العصبية، ويندر أن ترصد في قلبه حقدًا أسود، فقد أتسامح مع يوسف إدريس في خطبة طويلة، على حين لا أتسامح مع غيره في جملة واحدة.

ثالثًا: حملة يوسف إدريس الأساسية كانت ضد لجنة جائزة نوبل وليست ضدي، وكما بلغني فإن البعض خدعه، ولم يصور له الأمور على حقيقتها، أبلغوه أخبارًا خاطئة على مدى سنوات عن احتمالات فوزه، وأصبح كل عام ينتظرها، وهكذا كان يوسف إدريس يفكر في جائزة نوبل أكثر من اللازم، وكان يسافر من أجلها ويجري اتصالات، ولذلك صُدِمَ من اللجنة وليس مني، ولذلك عندما صفّيت المسألة بعد الدردشة وأحيانًا كلمات خاطفة، في النهاية لم يبق شيء يغضبني حقيقة» (ص 196-197).

وفي الفصل الأخير كان الختام مع لقاءات يوسف إدريس مع الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، في صدفة هي الأجمل والأكثر خفة، فضلًا عن لقائه مع فاتن حمامة وصداقته الوثيقة معها، ورثاء البعض له بعد وفاته.

الكتاب شامل وبه مجهود واضح منذ الفصل الأول ويضم معلومات مهمة عن يوسف إدريس، كلها مدعمة بالوثائق والمادة المنشورة بالفعل في أرشيف الصحف والمجلات.

مع كل صفحة في هذا الكتاب، تتأكد من صحة مقولة الروائي إبراهيم عبدالمجيد عنه؛ إذ يقول في تقديمه للكتاب: «أنتم هنا مع رحلة طموحة تستوحي طموح يوسف إدريس وتحاول بصدق وجهد رائعين الإحاطة به منذ طفولته ونشأته غير العادية، وفي ما أنجز وكتب وفعل وكيف كان سماءً ممطرة للوطن».

إن القارئ المتعطش للأدب والمعرفة، سيختتم رحلته مع كتاب بشري عبدالمؤمن وقد أصبح أكثر حُبًّا وتقديرًا ليوسف إدريس وصدقه وإخلاصه لفنه، وربما يكون الكتاب الممتع دافعًا لاهتمام أكبر بقراءة (أو إعادة قراءة) أعمال يوسف إدريس الثرية والمدهشة في آنٍ معًا.

إعلان