إعلان

الذائقة وتلك الاشتهاءات ..

د.هشام عطية عبد المقصود

الذائقة وتلك الاشتهاءات ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 18 مارس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ستمضي الحياة في مسارات مألوفة تطورا ومعها سيعرف الناس أنواعا شتى من الطعام، وتتشكل لدى كل بلد بل وكل مجتمع محلي ثقافة طعام لها سمات خاصة، تحمل من تاريخه البعيد شيئا ومن خصائص بيئته المحلية شيئا ويمتزجان معا، وستصنع ثقوب ذاكرة الشبع لدى البشر نهماً مرناً نحو اشتهاءات جديدة تبحث عن مذاقات طعام مختلفة، تضيف وتجرب وتتذوق، مقاومة ثبات ألوان ما استقر عليه نوع الطعام والذائقة الثابتة التي صارت ساكنة مللا.

وبينما تتغير تفضيلات أنواع ووصفات الطعام بين أفراد البشر في كل مجتمع، تبقى دوما تلك الأكلات العابرة للذائقة الشخصية وأيضا للزمان وللجغرافيا ماثلة تقاوم فترسخ حضورها، حيث تفرض سحر سطوتها رائحة وطعما وبهاء لا ينتهى، تلك هي ما يطلق عليه الأكلات القومية أو مذاقات الأطعمة الوطنية الفريدة التي يقرأ عنها السائحون ويميلون إلى تجربتها حين يحلّون أهلا، كما يفضلها المسافرون عن الأوطان غربة فيتذكرونها في معلقات الشغف بالطعام ويلحون في طلبها.

وتظل تلك الطاقة الباحثة الساعية المكتشفة لجديد الأشياء عامة والمتضمنة في فطرة الإنسان هي صانعة تحولات الكون جميعها، فتطور تفاصيل الحياة جميعها في رحاب فعل السعي، وهكذا تغيرت طبيعة الإنسان من مخلوق أول بدائي عار سوى من ورق الشجر إلى كل ذلك الحاصل مما صار معروفا ومألوفا في شكل وهيئة البشر وثقافات مـأكلهم وملبسهم وعموم سلوكهم.

في ثقافة استمرار الطعام عبر الأجيال ربما يتبدى لنا من مراجعة التاريخ شيء عن أنه قد يتم توارث المذاق الغذائي مثلا كفعل أول ثم يتم تطويره طوال الوقت بإضافات شتى، بحيث أن ما يستسيغه الأب والأم يأكله الأبناء ليشيع ويكون بعدها ثقافة مجتمعية تمضي بإضافات نوعية عبر الزمن، ليأخذ معالم الاستقرار طعاما ونوعا، وأن اكتشاف نوع جديد من الطعام ودوام حضوره يتم بفعل مبادرات واكتشافات فردية شجاعة تضيف إلى ما هو مستقر من عادات وتقاليد وثقافة الطعام، لتمضي مفردات قوائم الطعام نامية فى اضطراد.

كما تقول لنا تجارب المجتمعات إن معظم البشر في مجتمع ما قد تستطيب طعاما معينا ويصبح مفضلا لديهم، بينما لا تحظى أطعمة وأكلات أخرى بذلك القبول الواسع، وتظل بعض الأطعمة تحتفظ بذاكرة خاصة لدى بعض الناس، لكونها لها تاريخ شخصي وجماعي وبعض من سيرة حياة ورائحة أمكنة تفيض بالتواريخ البهيجة، فبعض الطعام يستحضر طقسا ما وذكرى ما يتعاظم تأثيرها الوجداني في سياق ذاكرة حضور الأهل والأصدقاء فى تواريخ بعيدة، كما أنه قد يصل الأمر أنه في بعض ألوان الطعام ومن قوة تأثير سياق حضوره الأول الفريد تأبى أن تأكله ثانية سوى في مكانه الذي شكل تاريخه في ذاكرة شهيتك بقاء مزهراً، والمسألة هنا ليست أبدا في جودة ولا نوع الطعام ذاته بل ما صنعه طقس وسياق تناوله، فربما شرائح الجبن الرومى مع كوب شاى وعدد من أصابع البقسماط في مكان ما عرفته أو في مقعد ما على إطلالة أثيرة لديك تظل أشهى تماما من كل ما يحضر في عرف البعض مأمولاً من طعام.

وتحتفي الذاكرة الجمعية المصرية بأكلات معينة وأظن أن ذلك التأثير الكبير مرتبط باندثار ثقافة صناعتها المنزلية رويدا، حين كانت فيما سبق جزءا أساسيا من تقاليد تعلم الطهو في البيوت، كما تكتسب بعض الأكلات حضورا وأهمية ارتباطا بعدم سهولة إتاحتها منزليا وتقلص مهارة إنجازها التقليدية في البيوت، أو صعوبة ذلك وما يتطلبه من وقت وجهد، وهكذا شهدت صناعة تسويق وجبات "الأكل البيتي" رواجا استهلاكيا جديدا متنوع الأعمار والفئات.

ومع تقدم عولمة الطعام في صورة أفرع مطاعم تقدم وجبات بمواصفات ثابتة، أصبحت تتخذ شكلا موحدا خاليا من الهوية الخاصة لطهوها بمواصفات مذاق أهل كل بيت، بينما احتفظت الأكلة ذاتها في البيوت القديمة بنكهتها الخاصة والفريدة حتى أنك كنت تأكلها عند جدتك أو عمتك مختلفة مذاقًا ورائحة عما هي في بيت أسرتك، وحيث في كل خير ومذاق شهي، وهكذا نظل متشبثين بما أدركناه من ذاكرة التشهي واستحضار طقوس الأكل التي عرفنا، وحيث مع الوقت لا يكون الطعام سداً عابراً جائراً لجوع ملتهم بدائي، بل شيئا يشبه ما تفعله الموسيقى في الجسد والروح، ويحمل دوما صوت الأحبة وروائح الأمكنة.

إعلان