إعلان

مصارعات البقاء: في تاريخ التدافع البشري ..

د.هشام عطية عبد المقصود

مصارعات البقاء: في تاريخ التدافع البشري ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 11 مارس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل جاء العالم على هذا النحو الذي يعرفه البشر وتوثقه تواريخ الأزمنة، ثم مضى في طريقه سنوات وقروناً وألفيات متعددة، فقط ينمو تطورا ظاهريا وتقنيا وأساليب حياة لكنه يحافظ على كل عناصر وسلوكيات وطرائق التفكير والنوازع الجوهرية التي حملها الإنسان في جيناته ومنحها لتعاقب أجياله، وذلك منذ استطاع أن يستبدل أوراق الشجر التي يغطي بها جسده ويرتدي الثياب وفق موضة الزمان وتناسق الألوان نمطا، وهل هذا المظهر ظل يختفي أو يتوارى خلف ذلك القاسم المشترك الإنساني الأول متعدد الدرجات والظلال والحدة ومهما تباينت بقعة الجغرافيا التي يسكنها ومهما تغير توقيت التاريخ الذي عاش فيه؟، صرت أعتقد في ذلك كثيرا ويتأكد لديّ كلما أتيحت لي قراءات في تاريخ الحوادث والبشر على امتداد مساحة الكون مكانا وزمانا.

ربما شكل تاريخ البحث عن الطعام "استمرار الحياة" أقدم وأهم حافز لتطور الإنسان ونمو علاقته بالكون، بل وربما كان هذا الحافز ذاته- في نمو وسائله وتحقيق تطلعاته التي نمت مظاهرها وتكلفة تدبيرها- مسئولا عما تراكم من مدركات وسلوكيات فيما يحمله سفر الكون من تاريخ تدافع البشر أفرادا وقبائل ومجموعات ومجتمعات، وربما صنع أيضا بذرة الحزن الأولى التي ما فتئت تنمو على مهل.

حيث اقتضى ذلك السعي الأول للبشرية نحو بقاء وتوفير مقدرات الحياة سلوكيات كثيرة بعضها يحمل طابع الاعتداء ويتضمن بعض نوازع أذى للكائنات بل والتحايل والمراوغة، تفردا وحيازة لكم أكبر من غنائم "الطعام" ثم مشهياته وملحقاته وما يرتبط به من تطورات استهلاكية عبر الزمن، وحيث تغذي الإنسان في البدء وبكل أريحية على كل ما استطاع أن يجعله طعاما له من الكائنات النباتية والحيوانية، وتفرد بتطوير ملكات العقل بنمو مستطرد عن سائر المخلوقات، وهو يعرف يقينا أن محض قوته البدنية ليست عامل انتصار بل قدرته على التكيف وتطوير أدوات ومصدات البقاء وعدم الاندثار، وبالعقل تراكت الخبرات وتراكمت معها أيضا مشاهدات الزوال والفناء والضعف.

ربما هنا تحديدا نشأ الحزن ملازما للسعي في الحياة بحثا عن طعام ومأوى وأمن واستمرار، وحيث واجه الإنسان مخاوفه أو ربما صنعها دون أن يدري بتصورات عن تأمين حيازات تقيه شر ما لايعلم، لينقطع فكريا عن تجربة السعي اليومي "من حاز قوت يومه"، ودفعته مخاوفه إلى أن يصنع حيازة في مخزون يمنح الطمأنينة وتأمين احتياجات لمدى أبعد، والذي سرعان ما تعصف به أشياء عابرة لم يجربها ولم يختبرها ولم يختزنها عقل الإنسان الأول في نموه، ثم واجهها فأيقن في نسبية كل وسائله في الحماية الذاتة فعرف الخوف أيضا وهجوم العاديات وصار الحزن كبيرا.

ولعل قصص البشرية في فصلها الأول مما تتضمنه قصة ابني آدم قابيل وهابيل، حين تملكت نوازع الحيازة والرغبة متضافرتان في قيام قابيل بقتل أخيه هابيل فاختبر الألم والندم معا وهو يحمل جثة أخيه باكيا من حزن مستطير ويبحث عن موضع يواري فيه سوءة أخيه.

ومضت حياة البشر تغالب يقين المؤقت والزائل بمصارعات البقاء لتصنع أملا ورغبة وتطلعات، والتي صارت تتطور ليس فقط اتكائا على غريزة البقاء بحثا عن طعام ومأوى بل والحيازة، حيازة الأشياء التي يظنها باقية والتي اتسعت رويدا لتضم كل شيء بمن فيهم البشر ذاتهم تملكا، وهو مرتكز تحول وقسوة تاريخية لم يتوقف عندها المؤرخون كثيرا باعتبارها فارقة في مسيرة البشرية، فلم نعرف بتوسع وتفسير كيف نشأت البذور الأولى للعبودية في التاريخ الإجتماعي البشري فكرا وممارسة، هو تدافع جم ربما هو كان مؤطرا ودافعا لفكرة الحيازة كاعتقاد جوهري في مدركات البقاء أو قانون استمرار المعايش، وحيث الحياة كبد.

ولهذا لا تستهويني كثيرا بعض قصص الزهد المبالغ فيها في سير وبروفايلات بعض الشخصيات في تاريخ الكون عبر الأزمنة والقارات، تلك الشخصيات التي تعمد بعض الكتابات أن تقدمهم بأفق واحد ليكونوا كمثال غير بشري ولا أرضي، ربما يصلح هذا نسبيا في مراحل التعليم الأولي في كل المجتمعات الإنسانية، لبناء منظومة قيم مثالية يمكن أن يدركها الناشئون كمثال يحتذى، وما أكثر تباينها أحيانا عن نوازع البشر في الحياة، وأيضا ما أكثر كونها استثناء يؤكد الأساس الذي يتم القفز عليه، حيث مطاردة مخاوف الانسان طريقا لا يتغير بينما يمضي فيه كأنه يقطعه بينما هو بلا انتهاء وحتى يدركه اليقين.

إعلان