لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تقطير الحكمة ..

د.هشام عطية عبد المقصود

تقطير الحكمة ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:18 م الجمعة 11 فبراير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يكبر البشر فتتراكم مع السنوات ما يسمى بالخبرات والأفكار التي يعتبرونها بمثابة حلول لما قد يتكرر – فالحياة في نظرهم تماثلات وتكرارات- ومن ثم تتشكل الفلسفات صافية كثمار يراها البعض وصفا سائغا للحلول يحلو لهم أن يقتطفوها، ثم يلوكوها ليعتصروا مخزون حكمتها وطرائق وصايتها كعلامات بها يمضون في دروب الكون، ما ضاق منها واتسع، ما ثبت فيها وما تبدل تبديلا، كأن من قال هذا قد أحسن وصف الطريق، طريق الحياة فخبر مغاراتها وطرقها ومواضع ذللها، وانتهى إلى كتاب حياته وقدمه حلا يسيرا سهلا، لكن ورغم كل ذلك يكرر البشر عبر الأجيال وعبر القرون والألفيات المشاوير التي يصرون بعد ذلك أنها تتشابه في أنها امتلأت بالعثرات والعبر ثم انتهت بالإستخلاصات أيضا.

هل كان الشاعر صلاح عبد الصبور محقا وهو يصف صديقه الذى "تسمم بالحكمة"!، تخبرنا الكثير من كتب ومرويات المذكرات والذكريات الشخصية المصرية حين تطوف بها لتعلم عن بعض ما بقي في عقول أصحابها وضمائرهم وأيضا وجدانهم من فلسفة الحياة، وهي يغلب عليها فكرة كشف الحساب ثم اللاجدوى وتساوى كل شيء، تبدو حين تقرأها استخلاصات شفافة حزينة حتى لتأخذك الدهشة من بلاغة مفرداتها ألما، وهنا تحديدا يكمن عيبها الكبير، أن معظم بل كل كاتبيها سردوها في لحظة زمنية وعمرية وأيضا صحية تحكم تتالى الخبرات في الذاكرة وطريقة الانتقاء ومن ثم فلسفتها تلك، فكأنها تقول عبر شرائط نصوصها وحكاياتها أن الوقائع متشابهة في نتاجها مهما اختلفت في حينها، وأن أنظر كيف أن كل ما قد مررت به من نجاحات عبر كل تلك الذكريات انتهت هكذا إلى لا شيء، فأنا الآن أجلس لأحكي لك وحيدا متأملا حزينا! ليشبه الأمر شيئا مما سطرته حكمة عبد الرحمن الأبنودى "دنيا على هيئة خنفسه .. ما أتعس الإنسان ما أسعد الحيوان".

تتجاهل عملية تقطير الحكمة تلك عبر المذكرات والذكريات أوقات الحياة الطيبة، تلك الضفيرة من الحياة أو يومها الحلو، فتسرده مختزلا سريعا عابرا، فلحظة الكتابة وصورة الشخص لذاته وهو يكتب تحكم الرؤية والهدف والاختيارات، كما أن لحظة محدودية الدور واختفاء مساحة الإنجاز وقت الكتابة تشكل عدسة رؤية كل ما يمر فتسرده نصوص الذكريات، لتتبقى فقط صخور صغيرة سوداء لا تمر من ثقوب غربال الذكريات بينما تنسل منها اللحظات الحلوة من دون أن ترغب في أن تبقى قليلا في ذاكرة الحكي.

أظن كثيرا أن من يمضي ممتطيا كتاب المسير عبر ضفاف آخرين، أو ملتقطا من صفحات أقوالا مأثورة ليقتفى أثرها، إنما ينقل من النص الساكن ليمضي من دون أن يتحلى ويمزج معه جرأة الشغف وجسارة الخوض عبر ايقاعات وأمواج الحياة كسباح أول شجاع، فيفقد طزاجة تذوق أشجار الأشياء بكل ما قد تمنحه من ثمار اجتياز التجربة الخاصة، دربا فريدا ولو تكرر، وإلا ما حكمة تعدد البشر في الكون واختلاف بصماتهم.

يأخذنا ذلك إلى فكرة الالتصاق بالأمكنة والتواريخ والشخصيات داخل كتابات التأمل تلك، ويقف بنا التفكير عند أشياء عدة تشغل العقل فى هذا السياق، مثل هل تفرض طبيعة المجتمعات جغرافيا وطقسا وتاريخا وثقافة وأنماطا للحياة حسا ما نسبيا أو تمنح قابلية أكثر احتمالا للعيش فى كتاب الذكريات والحكي؟، وهل لذلك مثلا علاقة بطبيعة البنى الاجتماعية لها؟ ، وعلاقة كل ذلك برسوخ اليقين بالنهاية المتساوية للكون كحل كلي ثبت منذ "فجر الضمير" لكل الحركة التي تظلل إيقاعات حياة الناس والكائنات، والتي تجعل تساوي الأشياء نتيجة معروفة مسبقا لتصير الأشياء جميعها وفقا لذلك هي "طيف خيال".

إعلان

إعلان

إعلان