إعلان

المرحلة القادمة وطبيعة الإنتاج (٢)

د. غادة موسى

المرحلة القادمة وطبيعة الإنتاج (٢)

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

07:00 م السبت 22 يناير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

انتهيت في الجزء الأول من المقال بالإشارة إلى ضرورة تصميم خريطة إنتاج لمصر تتواكب مع الاحتياجات الجديدة بالداخل والخارج مع الاهتمام أيضاً بالمطالب المتصاعدة للمنتجات الذكية.

ويتبادر إلى الذهن تساؤل: هل من الضروري أن ننتج كل شيء؟ الإجابة ليست واحدة. ولكن من الضروري أن ننتج ما نحتاجه. فكما سبقت الإشارة سيظل الإنسان يأكل ويلبس ويسكن. فهي احتياجات لا يمكن الاستغناء عنها؛ لذلك من الضروري أن نزرع ونبني. ولكن الأهم أن نزرع حتى نأكل ونستطيع أن نعمل. بديهيات تبدو ساذجة، ولكنها حيوية وترتبط بتحقيق أمننا الإنساني.

لذلك من أهم محددات رسم خريطة الإنتاج في مصر هي تحديد أولويات الإنتاج.

لقد كانت ومازالت مصر دولة زراعية. ومن ينكر هذا الواقع فقد جانبه الصواب. ومنذ نهاية الثمانينيات وهناك تحول ملحوظ في خريطة الإنتاج وبعد عن الاهتمام بالزراعة لصالح الخدمات - وليس حتي لصالح الصناعة. وقد كان هذا التحول كارثة على مصر وعلى المصريين. إذ قفزنا قفزة في الهواء وسقطنا على "اللا شيء!"

فلم أعرف دولة في أوروبا- التي شهدت ولادات لثورات صناعية على أرضها - أن أهمل سكانها الزراعة لصالح أنشطة اقتصادية اخرى. بل ما حدث هو العكس، حيث تم تسخير كل تقدم حادث في الصناعة وقطاع الخدمات لتقوية وتطوير قطاع الزراعة. وذهب الأوروبيون إلى أبعد من ذلك بسن تشريعات ووضع سياسات حمائية لقطاع الزراعة تحديداً . فلا يمكن تصور التضحية بغذاء الشعوب. وقد طفت في بلدان أوروبية عديدة، ولم أر أراضي زراعية تم تبويرها لصالح السكن أو لصالح أنشطة اقتصادية أخرى. كما لم تتغير مساحة الرقعة الزراعية بالسالب، والأرجح أنها زادت عما هي عليه. والسبب هو أنه لا يوجد ما ينفر المزارع الاوروبي من ترك هذه المهنة التي تُدر عليه دخلاً لصالح نشاط آخر.

لذلك يرتبط مستقبل خريطة الإنتاج في مصر بطبيعة السياسات التي توجه الأفراد نحو أنشطة اقتصادية تحقق ربحاً وقبلها تفي باحتياجات ومطالب مُلحة؛ لذلك لا أتصور- ولو نظرياً- أن ينفر فلاحو مصر والمزارعون من النشاط الزراعي إلا بعد يأس شديد. والوصول لهذه المرحلة يعني خطراً وشيكاً جداً .

وحيث إننا حسمنا مرجعية الأولويات إلى الاحتياجات والمطالب لاستمرار النشاط الاقتصادي الزراعي، فلابد أن نحسم دور الدولة في هذا الشأن. والموضوع ليس عسيراً. فكما سبقت الإشارة فإن حجم الاحتياج والمطالب للغذاء لن ينتهي في مصر أو خارجها. لذلك فهناك مساحة للجميع (أقصد هنا الدولة والفرد والجمعيات) للمساهمة في الإنتاج الزراعي.

والدولة باعتبارها المسؤولة عن إدارة الموارد بكفاءة وتوجيهها نحو ما يحقق الاكتفاء والامن، ستتدخل في اللحظة التي يكف فيها الأفراد والجمعيات عن المساهمة في الإنتاج الزراعي. ولكن يهمني في هذا الشأن توقيت التدخل. فقبل أن تتدخل لابد وأن تضع من السياسات والتنظيمات والإجراءات ما يمكن الأفراد والجمعيات من المساهمة المخططة في النشاط الاقتصادي الزراعي. وهذه السياسات لابد وأن تتصف بالحماية على غرار مثيلاتها في دول العالم المختلفة. وفي هذا الصدد أود الإشارة إلى تجربة تعرضت لها عندما سافرت للمرة الأولى إلى دولة استراليا، حيث كانت هناك تحذيرات متكررة ومتصاعدة من اصطحاب اية بذور أو طعام لداخل الدولة. وكانت العقوبات شديدة للغاية. فهذه الدولة تريد الحفاظ على سلامة تربتها الزراعية ومنتجاتها.

هذا مثال واحد لطبيعة السياسات الحمائية التي يمكن أن تضعها الدول لحماية أصولها الزراعية. وفي الواقع فلابد أن تتطور مصر السياسات الزراعية في اتجاه تحفيزي وحمائي وذكي يُمْكِنُ الأفراد والجمعيات من المساهمة بشكل أكبر في الإنتاج الزراعي. ومن خصائص تلك السياسات تشجيع التنافسية ومراقبة الاسعار وانشاء بنك للبذور واستخدام وسائل الإنتاج الذكية والمتطورة لزيادة إنتاجية الفدان. وهو ما يتطلب تشجيع الأفراد على تأسيس شركات للإنتاج الزراعي ومصانع للمنتجات الغذائية. وفي هذا الصدد يمكن للدولة أن تدعم- على الأقل- المراحل الاولى من الإنتاج الزراعي بشبكات المياه والإمداد بالبذور.

إن الاهتمام بالنشاط الاقتصادي الزراعي "الذكي" من شأنه فتح مجالات واسعة لصناعات غذائية ودوائية وصناعة منسوجات. ولو تم التركيز لمدة خمس سنوات على هذا المجال فمن شأن ذلك نقل مصر نقلة نوعية في مجال الاكتفاء الذاتي والامن الغذائي من جانب والتصدير من جانب آخر.

الجزء الثالث سيتناول أولوية أخرى في خطة أو خريطة الإنتاج في مصر.

إعلان