لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

جائزة مصطفى المسناوي بمهرجان تطوان تذهب للصربي غير العادي «غرز»

د. أمــل الجمل

جائزة مصطفى المسناوي بمهرجان تطوان تذهب للصربي غير العادي «غرز»

د. أمل الجمل
07:00 م السبت 12 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان الناقد السينمائي المغربي والصديق العزيز مصطفى المسناوي أخاً عزيزا على قلوبنا. لن أصفه بــ«الراحل»، لأنه باقٍ وموجود بيننا. كان- ولا يزال- له قيمته الكبيرة في النقد السينمائي العربي. كان كريما وصاحب أيادٍ بيضاء على كل أصدقائه. أول مرة التقيت به كنا في مهرجان بحر السينما العربية» في ميسينا بإيطاليا. شعرت أنه ودود وسمح. يومها أهداني حلويات مغربية رائعة خاصة بشهر رمضان. وصرنا نلتقي سنوياً في مهرجان دبي السينمائي نشاهد الأفلام ونناقشها.

كنا نختلف أحياناً بشأن مستوى بعض الأفلام المغربية، فقد كان صارماً لا يتورع عن انتقادها بقسوة، أتذكر اختلافنا حول فيلم المخرج المغربي حكيم بلعباس «شيء غادي وشيء جاي» فقد احتج المسناوي وبعض زملائه على مصداقية الأجواء والبيئة المحيطة بالشخصيات وملابسها، لكني يومها اندمجت مع الفيلم وصدقت أبطاله ولم يشغلني حضور الواقعية من غيابها، فقد كانت الرمزية موفقة جداً وأهم ما فيها كان صدق الشعور والخبرات النفسية للأبطال التي تتسم بالكونية.

الظريف في الأمر أن المسناوي تقبل اختلافي معه بأريحية، وأنصت إليَّ دون مقاطعة. كان واسع الصدر يستقبل الاختلاف بود وهدوء، وعندما اكتشف ولعي بمشاهد الأفلام بزخم اقترح عليَّ أن يهديني عدداً كبيراً منها لمشاهدتها طوال العام، فصارت عادة سنوية.. كنت أقدم له هارديسك ضخما لينسخ عليه عشرات الأفلام من تلك التي بحوزته لأشاهدها لاحقاً. لاحقاً اكتشفت جانباً إبداعياً آخر في شخصيته عندما أهداني مجموعته القصصية «أحلام الشاهد السبعة»-رحمة الله عليه- افتقدنا قيمة إنسانية وفكرية كبيرة.

لكل ما سبق، سعدت باختياري ضمن لجنة التحكيم التي تمنح جائزة النقاد التي تحمل اسمه في مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط في دورته السادسة والعشرين التي كان من المفترض أن تعقد في مارس ٢٠٢٠، لكنها تأجلت بسبب تفشي (كوفيد- ١٩) الذي راح ضحيته في المغرب نحو تسعة آلاف شخص وفق الإحصائيات الرسمية.

صحيح أن إدارة المهرجان أصرت على إقامة هذه الدورة افتراضياً، وإن كنا نتوقع أن تكون الدورة المقبلة حضورية وفق ما نستشفه من كلمات رئيس مؤسسة مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط الناقد أحمد الحسني، إذ قال: «لأول مرة يشتغل مهرجان تطوان بهذه الصيغة الرقمية، وهو اكتشاف جديد بالنسبة لنا وتجربة جديدة نفتخر بها لأننا اخترنا وسائل عمل احترافية ومتميزة. لكن، بالنسبة لنا كمحبي وعشاق السينما، مهرجان حضوري هو الأمثل، هو الاختيار الأفضل».

على مدار أسبوع، شاهدنا تسعة أفلام من بلدان مختلفة أغلبها مرتفع المستوى الفني والفكري، وكان هناك نحو أربعة أفلام يدور من حولها الجدل الكبير بشأن الجائزة، لكن في النهاية تم حسم الأمر لصالح فيلم «غرز» «ستيتشز»Stitches للمخرج الصربي ميروسلاف تيرزيتش.

بالطبع أعجبني جدا الفيلم البلغاري «الأب» الذي تُوج بالجوائز في مهرجانات دولية بدأها من كارلوفي فاري، وكان آخرها جائزة أفضل ممثل في تطوان السادس والعشرين من لجنة التحكيم الرئيسية، ورغم براعة مخرجه في تحقيق معادلة صعبة هي الجمع بين رقي المستوى الفني والفكري مع لمسات تجارية، لكن صدقاً ظللت متيمة بالفيلم الصربي «غرز» بدرجة قوية، رغم أنه أقرب للفيلم نوار، ربما صدقه وبشاعة القضية المغلفة بطبقات من القضايا الفكرية الأخرى بشكل رقيق غير ملحوظ، وبذكاء شديد.

فالمخرج- في تقديري الشخصي- يُقدم مزيجاً فيلمياً أنيقاً يعتمد على لغة سينمائية بليغة وإن كانت مقتصدة، عبر حركات الكاميرا التي تتبع أبطالها- خصوصاً الأم الملتاعة- أو تتوقف حين ترصدهم عن بعد، بزوايا التصوير الأخاذة ببساطة ودون افتعال، وأحجام اللقطات المناسبة والكاشفة، بردود فعل الشخصيات التي تبدو غير انفعالية، كأنها هادئة، لكنها تغلي من الداخل.

يحكي الفيلم عن سرقة الأطفال حديثي الولادة وبيعهم للأثرياء أو المقتدرين، وحين يسأل الوالِدِين عن فلذات أكبادهم يتم إخبارهم بأنهم توفوا. لا دليل مع أو ضد، لا مقابر، لا جثث، لا شيء على الإطلاق. هنا الأم البطلة لم تصدق الكذبة، وظلت ثمانية عشر عاماً تبحث وراء الحقيقة، رغم التهديدات التي طالتها هي وأسرتها من هذه المافيا التي يتورط فيها شخصيات مسئولة من أعلى المستويات.

أثناء ذلك، نتورط مع هذه البطلة نفسياً ووجدانياً، ويبلغ التعاطف مداه حين تلتقي بابنها فيهاجمها بقسوة قائلاً لها: «ماذا تريدين مني؟ هل تريدين أن أتخلى عن عائلتي لأعيش معك؟ أنا لا أهتم بك أو بالآخرين، ما يهمني هو نفسي».

هنا، رغم أن الأم تختنق بالبكاء الذي تمنعه بكبرياء، لكن التضحية التي تقدمها بسخاء تسحب دموعنا نحن بقوة؛ إذ تربت على ذراع ابنها الذي يُنكرها قائلة: «بالعكس، أنا جئت لأعتذر لك، لقد أخطأت في حقك. أنت شاب جميل وناجح، ولا بد أن أسرتك تفخر بك. أعتذر لك».

هنا فقط نشعر أن جبال الثلج في قلب هذا الشاب بدأت تتحرك، وأنه فجأة شعر بصدق كلامها بأنها أمه الحقيقية، لم ينطق بشيء، يستدير ويسير في طريقه كأن فوران البركان لن يتوقف. ثم في اليوم التالي نراه يراقبها، وهي في طريقها للبيت، ويدخل متسللاً ليتأملها، وهي تنشر الغسيل في سكينة، وكأنها تصالحت مع نفسها طالما أن ابنها سعيد في حياته الحالية، وطالما أنها اطمأنت عليه، لكنه قبل أن يخرج يُحرك تمثال الحصان من مكانه فوق الشيفونيرة في دلالة قوية لختام هذا الشريط السينمائي البديع.

يُجسد الفيلم قصة حقيقية تُعبر عن فصل قاسٍ من التاريخ الصربي الحديث، لكنها لا تزال تعبر عن الحاضر في دول عدة، وتحمل العديد من الاستعارات والدلالات الرمزية ، فالتيارات المزعجة المربكة تحت السطح الهادئ المخادع للفيلم تتجاوز فكرة سرقة الأطفال حديثي الولادة إلى النظام الفاسد الذي يمارس القهر والترهيب النفسي للمواطنين، وذلك عبر تقديم فكرة مدروسة بشكل غير عادي عن شخصية الأم القوية العزيمة المتسلحة بالأمل، الباحثة عن الحقيقة بتفاصيل مقنعة نفسياً، أتقنتها الممثلة المبدعة سنيزانا بوجدانوفيتش لتخلق دراما قوية متماسكة، هذه الممثلة التي تُوجت بجائزة أفضل ممثلة من لجنة التحكيم الرئيسية في تطوان هذا العام.

إعلان

إعلان

إعلان