إعلان

سجن الجمهور المُتخيل والخرافة الشخصية

د. أحمد عمر

سجن الجمهور المُتخيل والخرافة الشخصية

د. أحمد عبدالعال عمر
07:02 م الأحد 19 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

إن حالة مركزية الذات (Ego centrism) في حقل الدراسات النفسية يُقصد بها الحالة التي يكون فيها الفرد مستغرقًا في عالمه الداخلي الخاص، منشغلًا بذاته، مبالغًا في تقدير أهميتها للدرجة التي يتصور فيها أنه مركز الأسرة والعالم المحيط به، وأن كل مَن حوله من بشر قد وجدوا من أجل خدمته وتلبية رغباته، وأن آراءه واهتماماته هي الأكثر صدقًا وأهمية من آراء واهتمامات الآخرين.

ويرى عالم النفس السويسري الشهير "جان بياجيه" أن حالة "مركزية الذات" هي في الأساس الحالة الطبيعية للأطفال تحت 6 سنوات، ومع النمو المعرفي والوظيفي في المرحلة العمرية من 7- 12 سنة تقل لدى الطفل نزعة "مركزية الذات" ويبدأ في استيعاب وجهات نظر الآخرين، والحوار معهم، ويصبح الطفل قادرًا على التحصيل المعرفي على نحو أكثر انفتاحًا ومرونة.

وعلى الرغم من أن غالبية الأبحاث التي أجريت على موضوع "مركزية الذات" تركز في المقام الأول على التطور النفسي والمعرفي في مرحلة الطفولة، فإن بعض الدراسات الأخرى أثبتت امتدادها أحيانا إلى مرحلة المراهقة المتأخرة ومرحلة البلوغ أيضًا؛ حيث يرى عالم النفس "ديفيد إلكينيد" أن اهتمامات المراهق الصغير تتمركز حول ذاته، ولأنه غير قادر على التمييز بين ما يفكر به الآخرون وبين أفكاره الذاتية، فهو يفترض أن الآخرين مشغولون بتصرفاته ومظهره بالقدر نفسه الذي يفكر به هو في نفسه.

ولتوضيح فكرته قام "ديفيد إلكينيد" بصياغة بعض المصطلحات التي تًساعد على وصف السلوكيات التي يمارسها المراهقون، وتثبت تمركزهم حول ذواتهم، مثل مصطلح "الجمهور التخيلي" ومصطلح "الخرافة الشخصية".

ويشير مصطلح "الجمهور التخيلي" إلى أن المراهق يظن دائمًا أنه محط أنظار الجميع، وأن المحيطين به في أي سياق يوجد فيه يركزون بشدة على ما يقوله أو يفعله.

أما مفهوم "الخرافة الشخصية" فيشير إلى اعتقاد المراهق أن أسلوب تفكيره مميز جدًا، وأنه الوحيد القادر على التفكير بهذا الأسلوب.

إذن، فإن حالة "التمركز حول الذات" هي سمة نفسية ومعرفية تظهر في مرحلة الطفولة والمراهقة وبداية البلوغ؛ ولكن إذا استمرت مع الإنسان في مراحل عمره اللاحقة وفي سنوات شبابه ونضجه، فإن هذا يعني أن هذا الإنسان لم يشبّ عن الطوق نفسيًا ومعرفيًا ووجوديًا، ويعيش في سجن مفتوح متخم بالجمهور المتخيل والخرافة الشخصية.

وقد أطلق الفيلسوف الأمريكي "رالف بارتون بيري" على هذه الحالة مصطلح مأزق التمركز حول الذات؛ وهو "المأزق المعرفي للذهن الذي يجد من المستحيل عليه الخروج من دائرة إحساساته وأفكاره الخاصة، ليعرف العالم والواقع مباشرة".

وأظن أن وسائل التواصل الاجتماعي التي نشّطت شهوة الكثيرين للكتابة، ويسّرت لهم إبداء الرأي في القضايا المختلفة بدون امتلاك المعرفة اللازمة وأدوات التحليل والنقد، مع يقينهم واعتقادهم أن وجهات نظرهم وأحكامهم حقائق مطلقة لا تقبل الشك أو المناقشة، قد أثبتت لنا أن مأزق التمركز حول الذات قد صار خطيئة الإنسان المعاصر، والمرض المعرفي لعصرنا الراهن.

وهذا المرض المعرفي هو سبب الصدام والتناحر الطفولي الدائم في العالم الافتراضي، الذي لم يعد فضاءً للحوار وتبادل وجهات النظر والتفاعل بين البشر من أجل زيادة الخبرة والمعرفة، وإثراء الذات، بل ميدانًا لتأكيد الوجود، وتحقيق الذات بكل الأشكال، وخلق شهرة زائفة وجمهور متخيل، وميدانًا للصراع وتبادل الاتهامات بين العديد من أصحاب الذوات الطفولية المراهقة المتمركزة حول ذاتها، والمنفصلة عن تيار الحياة والواقع والعالم الحقيقي.

إعلان