إعلان

الملل ومستجدات لوازم الحياة

د. هشام عطية عبد المقصود

الملل ومستجدات لوازم الحياة

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 10 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

يصنع تواتر ثقافة الاستهلاك وملل الاعتياد تحولات الحياة ثم يدخل مسترخيا ساحة الشراء وبناء قوائم الرغبات المستجدة فيما نراه من خدمات وسلع معروضة فى المحلات وعبر منصات التسويق، وهكذا يدخل الناس دائرة الرغبة فى الاستهلاك والشراء إذ تنشأ إحتياجت لم تكن قائمة من قبل ولا ضرورية، كما يتسارع الكثير نحوها كأنها من لوازم الحياة بالضروة، حيث تصير ليست مقصدا للاستهلاك فقط بل تعبيرا اجتماعيا عن مكانة يرغبون فى أن يراها من حولهم.

وهكذا تتغير وتتبدل عادات وأنواع وأشكال الطعام والزى وغيرهما مما عرف الناس فى تعاقب أجيالهم وعبر ممرات السنوات والحقب لتتخذ نموا واتساعا جديدا يشبه صورة عصرهم ويعبر أيضا عن ملامح وثقافة أوانهم، وهكذا يمتد الأمر إلى تمرينات الرياضة البدنية ذاتها والتى اعتادتها أجيال سبقت – وكانت تاريخيا تطورا لمطاردة الفرائس وحرفة الصيد كمهنة وتقليد بشرى ورياضى أول – والتى ألفوها فيما كان يُعرف بتمرينات الصباح و"تمشية" المساء، ليتلاشى تدريجيا الوجود التاريخى الظاهر والمتكرر لتلك الجمل التى حملتها أسوار المدارس وتناثرت فى أحاديث الناس عن المشى مصحوبة بأن العقل السليم الذى هو بالضرورة – ومن يضمن ذلك - فى الجسم السليم، هكذا فى جملة مطلقة واحدة تعبر عن زمن اليقين السهل، وليحل محلها خبير وخبيرة الجيم الذى يسير بكتيب تعليمات تنطلق منها الرسائل المتتالية كوصايا الوالدين عبر الواتس آب وبينما قد يغفل أحدهم شيئا من نصيحة الوالدين متوقعا تسامحهما فإنه لا يستطيع محاذرا تخطى تعليمات الخبير إلا محملا بذنبه، وبدلا من المشى على طول شوارع وأيضا داخل ممشى النوادى الرياضية، سيصير كل ذلك تقليدا قديما و"للكبار فقط"، وسيكون الجيم ( Gym) بديلا عصريا سهلا ويسيرا وبديلا تم تسويقه وتيسيره وصنع بطاقات عضويته وذلك لكل من استطاع إليه بديلا.

وستعرف "الجميون" بأسماء أماكن نزوحهم الجديدة، وأيضا بلون كروتهم ذهبية أو فضية أو برونزية، وبتلك اللواصق المعلقة على عرباتهم تحمل أسماء نوادى الجيم كأنها إكتمال لشخصيتهم الرياضية الجديدة وملامح مكانتهم الاجتماعية المرغوبة فى أن يدركها من حولهم، سيمضى الجيم فى طريقه لتجد إعلانا يطاردك فى كل شارع كبير وعبر كل حى وعبر جروبات الواتس واعلانات الفيس ونقاشات البعض فى المنصات، ومع الوقت سيكون اختيارا جمعيا استهلاكيا ليتراوح مكانه معبرا عن طبقيته إما فى شقة أرضية فى أحياء البسطاء، أو على دور كامل فى عمارات المتوسطين، أو فى مبنى كامل زجاجى لايتم دخوله إلا بكروت ممغنطة لمن سواهما، وسيكون السؤال الجديد الذى يرشه البعض فى وجهك مفاخرا سعيدا - حتى لو كان ممن لازالت كروشهم تتمشى متدحرجة أمامهم إلا قليلا- هوا بالمناسبه إنت بتروج جيم إيه؟.

الجيم لم يعد رياضة فقط ولكن منطق حداثة ووحدة اجتماعية مغلفة بطقوسها، ساحة التقاء غرباء عبر يسير الوقت، وتعبير عن إنتقال الرياضة كما الواقع من ساحة الهواء الطلق إلى القاعة المكيفة والمغلقة حيث السماعة فى الأذن وشاشة التليفزيون تنطلق بلا توقف على واجهة الأجهزة الرابضة، بينما الكل سابح فى ملكوت صمته وبحلقته فى شاشة جهازه يحسب السرعات أو السعرات كما الروبوتات المتجاورة، وربما يمتد إلى ممارسته عبر الميتافيرس الجديد.

دخل الجيم فضاء الإستهلاك ومن ثم تحول من ممارسة رياضية إلى تعبيرات طبقية، وتجتمع "الجميون" وفق مراتبهم الإقتصادية فى أندية توازي أنديتهم الرياضية التى يحملون كروت عضويتها ولا يذهبون إليها إلا لماما، وسيبدأون هكذا فى جيماتهم الجديدة مندفعين متحمسين ثم يدخل الملل ليمضوا بعد وقت قليل كل إلى حال سبيله باحثا عن جديد.

ممارسة الرياضة هى حقا عمل أساسى وداعم لحيوية العقل والنفس وصحة الجسد أو هى سعى جاد نحو ذلك، لكن فضاء الجيمات لدينا أصبح شبيها باستعراض اجتماعى، ساحات رياضة مكيفة ترى الشارع عبر زجاحها المغلق وتطل على الحياة من خلف نوافذها الصامتة، ليصبح الجيم ساحة تجمع بين واقع وافتراض، ملتقى معية الصامتين حيث الفضاء المغلق من حولهم، وتمضى "الجيمات" لتحمل مسميات أكثر إقناعا وفعالية تسويقية مقاومة الملل وتشبع الاستهلاك الأولى، وكما جديد الحياة سيأخذ ذلك وقته إلا قليلا حتى يتسع ملل الناس أو يظهر تسويق آخر بمسمى آخر ربما يحمل أرقاما واحصاءات تدعمها أحاديث تدعى أو تزعم وهى تبدو مقنعة لتقول فيما يشبه أنه حسم واضح – وكعادات المسوقين المحترفين - أنه تم اكتشاف أن ممارسة الرياضة فى الهواء الطلق مرة أخرى وكما كانت لحظة البدء أساس لا يتواجد بديل آخر صحى له وأن تواجد الشخص فى مكان مغلق ثم العرق على الأجهزة الكهربائية الموصلة بأسلاك الكهرباء متعددة قد لا يشكل إضافة ما – من يدرى جديد المعلومات ؟!- وقد صنعت جائحة كورونا شيئا من ذلك، أقول ربما من يدرى؟، فالعالم يتأسس ليس فقط على احتياجات الناس ولكن على قناعاتهم بما يعتقدون أنهم يحتاجون إليه وأيضا على قدرة من يؤسس لهم صحة ذلك، وإلا فكيف سيكون نمو الاستهلاك وتعريف الملل ؟!.

إعلان