لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

اعتذار من القبر!

د. ياسر ثابت

اعتذار من القبر!

د. ياسر ثابت
09:31 م الإثنين 01 نوفمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هذا الكتاب جميل، لكنه مرهق نفسيًا إلى أبعد حد.

إنه ببساطة رسالة اعتذار من القبر. رسالة متأخرة، يرى البعض أنها بعد فوات الأوان، لكن الكاتبة وجدت فيها عزاءً كافيًا لمداواة جروحٍ يصعبُ أن تلتئم.

في أقل من 150 صفحة، نقرأ ونتعذبُ مع ضحية جريمة عائلية مكتملة الأركان، كان الجاني الأول فيها هو الأب نفسه، الذي يُفترض به أن يكون أكثر البشر حُبًا لطفلته ورأفةً بها وحماية لها وحرصًا عليها.

مثل ملايين من النساء، انتظرت «إيف إنسلر» اعتذارًا فترة طويلة من حياتها. فقد اعتدى أبوها عليها جنسيًّا وبدنيًّا بشكل متكرر، منذ أن كانت في سن الخامسة.

صارعت «إيف» آثار هذه الخيانة طوال حياتها، وهي تتوق إلى محاسبة صادقة لرجل مات منذ زمن. وبعد سنوات من العمل كناشطة مناهضة للعنف، قررت أنها ستكف عن الانتظار، وأنه يمكنها أن تتخيل اعتذارًا بنفسها، من أجل نفسها، وموجَّهًا إلى نفسها.

تقول الكاتبة:

«سئمتُ الانتظار. أبي ميت منذ مدة طويلة. لن يقول لي الكلمات أبدًا. لن يقدم الاعتذار؛ لذلك، لا بدَّ أن يكون هذا الاعتذار متخيلًا فحسب، نستطيع أن نحلم عبر الحدود، وأن نعمِّق السرد، وأن نبتكر نتائج بديلة».

«هذه رسالة توسُّل، واستحضار. حاولت أن أسمح لأبي بالحديث معي كما كان سيتحدث» (ص 7).

إنه بالفعل كتاب «عبقريّ على نحوٍ مزلزل» كما وصفته «التايمز»؛ مزلزل بما فيه من وجع مكثف مكتوب بقلم روحٍ ناجية من حربٍ دمارها أبشع من أعتى الأسلحة، روح نجحت في إيقاف تسلسل متوارث من المآسي والأوجاع وخرجت من قاع الظلام إلى النور لتحكي وتتعافى وتنير طريقها وطريق مثيلاتها من ضحايا الاعتداء الجنسي.

أما العبقرية هنا فتجسَّدت في فكرة ومعالجة الحكاية على هيئة جواب اعتذار من والدها الراحل، رسالة توسُّل واستحضار تسمح له من خلالها بالحديث معها كما كانت تتمنى أن يحدث، في محاولة لإمداده بالإرادة والكلمات ليعبر حدود الاعتذار ويتحدث بلغته، لكي تستطيع أن تنال حريتها على حد وصفها، فنجد الرسالة والحكاية كلها تدور على لسانه هو، تحكي من منظوره كيف كان مشوهًا ومُتسلطًا ومتكبرًا وشهوانيًا بل وضحية هو الآخر بشكلٍ ما، فخرج الكتاب بشكل عبقري بالفعل.

«أصبحتُ معزولًا تدريجيًا. لم يكن لديَّ أحدٌ لأتكلم معه، لا أحد لأتشارك شكوكي معه، لا أحد لألعب معه، ولا صلة حقيقية بأي أحد خارج هذا البناء الأسطوري لعائلتي. خلق هذا رؤية شديدة التشوه لنفسي وللعالم. كان التواصل الحقيقي الوحيد الذي أجريته مع أخي الأكبر، «ميلتون»، الذي كان يكبرني بأحد عشر عامًا. تشاركتُ معه غرفةً لفترة من الوقت. كان زميلًا بائسًا بشدة وبدا أنه يوجه إحباطاته وغيرته تجاه أخيه الذي نُصِّبَ فارسًا. أضمر لي احتقارًا كبيرًا وبدا أنه يستمتع بالملذات السادية، ويبتكر باستمرار وسائل غريبة للتعذيب والترويع» (ص 28).

يبرر الجاني جريمته، فنقرأ على لسانه وهو يخاطب ابنة الخامسة من العمر:

«ربما كنتُ أرتجف باختبار الحد الأقصى لارتباطكِ بي، لعمق احتياجكِ لي. لم ينتحبْ أحدٌ من قبل من أجل جذب انتباهي ربما كان ضعفكِ ويأسكِ المطلقان هما اللذان منحا له الإذن اخيرًا بتولي زمام الأمور، لكن «رجل الظل» تقدَّم. وهناك وحينذاك اخترق بوابة الخطيئة» (ص 48).

في وصف اللحظة المحرَّمة، يحكي الأب المعتدي:

«ضممتُكِ في حضني وتلاشت كل الحدود» (ص 49).

«ذلك اليوم، تخطى «رجل الظل» الحدود وأنهى حياتي كما عرفتها. وحياتك. سافرتُ في عالمٍ لا يرشدني فيه شيء عقلاني أو مألوف. فصلتُ عن السفينة، المرسى الذي عرَّفني ككائن أخلاقي ونُبِذتُ إلى الأبد على بحرٍ أهوج لا يرحم» (ص 50).

يقول الأب في اعتذاره:

«احتياجي، رغبتي، أقوى من راحتكِ وسلامتكِ العقلية» (ص 49).

«كانت لمستي دواءً سامًا» (ص 49).

أما الاعتداء البدني العنيف، فنطالعه في لحظات المواجهة ومضاعفات التحدي بين الابنة وأبيها، بداية من طلب فتاة العاشرة قضاء الليلة في منزل صديقتها «جودي»، وسط رفض الأب وتمرد الابنة، قبل أن يبدأ الإيذاء البدني:

«وثب «رجل الظل» في الحال، وبكل قوته ضرب يده بشدة عبر وجهكِ المتمرد. طار جسدُكِ بالكامل عبر الغرفة حتى اصطدم بالجدار، وسقطتِ مثل دميةٍ قماشية بالية مهلهلة إلى الأرض فوق زغب السجاد وفُتاته» (ص 70).

يتسع نطاق الأذى ليشمل النبذ العائلي:

«وبعد أن تعرضتْ العائلة للحركان والتجاهل لسنوات عديدة، كانت أكثر من سعيدة للانضمام إلى جيشي النبيل. كانت «إيف» هي العدو الآن. ليس الزوج والأب. تحالفَ أفرادُ العائلة معي بإخلاص، لتسليحي بمعلومات من أجل عقابي اليومي وتأمين إبعادكِ الدائم. لقد طُرِدتِ من الجنة في ذلك اليوم. أنتِ، من شغلتِ أعلى مكان فيما مضى، أُلقيتِ من السطح لتعيشي بالخارج وحيدةً في التراب. أنتِ، من كنتِ محور قلبي العطوف، أُبعدتِ إلى المَطْهَر» (ص 71).

تحاول الابنة أحيانًا التحفيف من وطأة ما تعرضت له بإيجاد مبررات إنسانية وعاطفية مختلفة، كأن تقول مثلًا على لسان أبيها:

«إذا كان في الأمر أي هزاء، فإن اغتيال ولعي بكِ قد اغتالني في الأساس. كل ما كان مريرًا وبغيضًا انتشر بداخلي كورم خبيث. أصبحتُ مكتئبًا ومصابًا بخيبة أملٍ مزمنة» (ص 72).

كتبت «إيف» هذا «الاعتذار» من وجهة نظر أبيها، وبالكلمات التي تاقت إلى سماعها، محاولةً التغلب على الإساءة التي عانتها، بصدق، وتعاطف، ورؤية واسعة للمستقبل.
وفَّرت «إيف»، من خلال «الاعتذار»، طريقة جديدة لنفسها، وطريقًا محتمَلًا لأخريات، حتى يمكن أخيرًا للناجيات من الاعتداءات الجنسية تصور كيفيةٍ للتحرر. عالجت هنا أسئلة سعت إلى الإجابة عنها منذ أدركت للمرة الأولى الأثر الذي تركه اعتداء والدها على حياتها: كيف نقدِّم مخرجًا بدلًا من زنزانة مغلقة؟ كيف ننتقل من الذل إلى البوح، ومن تقييد السلوك إلى تغييره، ومن إدانة الجناة إلى استدعائهم للمحاسبة؟ ما الذي سيتطلبه الأمر كي يعتذر المعتدون بإخلاص؟

«الاعتذار» (ترجمة: سها السباعي، الكرمة، 2021) كتاب استثنائي وأصيل عن إمكانية أن نبدأ من جديد، وأن نتعافى من جراح الاعتداء الجنسي. إنه كتاب ثوري، يطلب من كلٍّ منا كل شيء: الشجاعة، والصدق، والقدرة على العفو.

الكتابة هنا مهمة ومُلهمة، ربما تنجح الكاتبة في لفت نظر إحدى الأرواح التائهة النازفة هنا أو هناك لعلّها تجد الشفاء وبريق الأمل بين صفحات هذا الكتاب.

إعلان