لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أمراض المثقفين

د.ياسر ثابت

أمراض المثقفين

د. ياسر ثابت
07:00 م السبت 23 أكتوبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إذا أردت أن تعرف جانبًا من أمراض المثقفين، فما عليك إلا أن تعيد قراءة وقائع فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب.

عقب الإعلان عن فوز نجيب محفوظ بالجائزة في أكتوبر 1988، أوضح أنه لا يعتزم السفر لاستلامها. في الجزء الثاني من مذكراته بعنوان «العصف والريحان: 1981-2015»، يلقي الكاتب والمؤلف المسرحي محمد سلماوي الضوء على تفاصيل خفيّة من الحكاية؛ إذ كان السبب «الرسمي» الذي أعلنه محفوظ لعدم سفره إلى السويد هو كبر سنه واعتلال صحته، على أن السبب الحقيقي كان عدم حُبِّه للسفر وعدم ميله الشخصي إلى الاحتفالات والمهرجانات، حتى إنه لم يتعود طوال حياته الاحتفال بعيد ميلاده إلا بعد فوزه بالجائزة، حين بدأ البعض يعتبر عيد ميلاده مناسبة قومية، فيتوافد هؤلاء على مجالسه وقد حمل كلٌ منهم كعكة تعلوها الشموع، في حين لم يكن محفوظ يقرب الحلوى أصلًا بسبب إصابته بمرض البول السكري، لكنه كان يضطر إلى مجاراة زوّاره. وتستمر تلك الاحتفالات ما لا يقل عن أسبوع، يطلق محفوظ عليه «أسبوع الآلام».

بمجرد اختيار نجيب محفوظ للكاتب محمد سلماوي لتسلم جائزة نوبل من ملك السويد، انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، فقد فوجئ بعض القريبين من محفوظ، والذين كانوا يرون أنفسهم أقرب إليه من سلماوي. واتصل به بالفعل أحد المقربين حسب ما رواه نجيب نفسه للقاص سعيد الكفراوي، وقال له:

-لماذا تختار سلماوي؟ أهو أقرب لك مني؟

فقال له محفوظ:

- إن أمي كانت أقرب لي من أي منكما، فهل كان يصح أن أرسلها لتسلم الجائزة؟

ثم أوضح محفوظ لمحدثه أنه اختار الأصلح لتلك المهمة، وعندئذٍ قال له محدثه بالحرف الواحد:

- هذه جائزتنا كلنا وليس من حقك أن تختار وحدك من يتسلمها.

وهنا أنهى محفوظ المكالمة.

على أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد، فقد هاجم البعض محفوظ لفوزه بالجائزة، وبدلًا من أن يهنئوه بها قالوا إنهم أحق بها منه. ويروي محمد سلماوي في مذكراته «العصف والريحان: 1981-2015» (الكرمة، 2021) كيف بدأت الضغوط تتوالى على محفوظ بسبب اختياره لمن يمثله في استلام الجائزة، فقد نشرت صفحة الأدب في إحدى الجرائد اليومية أن اختيار محفوظ لممثله الشخصي ليس نهائيًا، وأن رئاسة الجمهورية ستتدخل خلال الأيام المقبلة لاختيار من يمثل محفوظ في استلام جائزته، بل بادرت الجريدة إلى تسمية بعض من رأت أنهم أولى باستلام الجائزة نيابة عن محفوظ، فذكرت أسماء وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشة، والناقد الكبير الدكتور لويس عوض، والروائي ثروت أباظة رئيس اتحاد الكتاب، ثم وجدت من يتساءل: لماذا لا يكون وزير الثقافة فاروق حسني هو ممثل محفوظ في احتفالات نوبل؟

وتحدث إلى سلماوي وزير الثقافة فاروق حسني مستغربًا هذه الضجة، وقال إنه سيبحث حقيقة الأمر من ناحيته، ثم فوجئ سلماوي به يضيف:

- وإذا قلت لك إن عليك ألا تسافر، فلا تسافر.

أدلى محفوظ بحديث لمجلة «المصور» أجراه الكاتب الصحفي محمد الشاذلي ونُشِر تحت عنوان «عيب ما يثار حول من يسافر لتسلم جائزتي!»، قال فيه:

«ينبغي أن يتوقف الكلام حول هذا الموضوع.. أفهم أن الناس تتسابق في أداء خدمة عامة، لكن هذه خدمة شخصية. ولقد اخترت محمد سلماوي لأنه يستطيع القيام بهذه المهمة خير قيام».

وردًا على سؤال حول أسباب عدم اختياره كاتبًا روائيًا من جيله، قال محفوظ:

«أجد حرجًا شديدًا في أن أعرض على أي إنسان السفر ليجلب لي شيئًا خاصًا، ولقد عرضت على السيد سلماوي وأنا خجلان فوافق، فكتر ألف خيره».

جاء ذلك في الوقت الخلاف الذي أججته الصحف بين محفوظ والكاتب الكبير يوسف إدريس، ليشير إلى حقيقة أسباب امتناع محفوظ عن اختيار أحد من جيله ممن هاجموه في السابق، ثم عادوا اليوم يتسابقون لاستلام جائزته.

وكتب موسى صبري وقتها في «آخر ساعة» يقول:

«لماذا الحجر على حق الكاتب في اختيار من يمثله؟ وإذا كان قد أعلن أنه لن يعدل عن قراره فلماذا نفسر ذلك على أنه حرج؟.. لكن هذا هو وباء المثقفين.. إنهم سكاكين مشهرة دائمًا! وهذا ما تجرد منه نجيب محفوظ في كل خطوات حياته».

وكتب ياسين رفاعية في جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية مقالًا بعنوان «اللاهثون وراء جائزة نوبل» قال فيه:

«اختار محفوظ الكاتب المصري الشاب محمد سلماوي.. وبالفعل كان خير من يمثل الكاتب الكبير شكلًا وأداء، وسلماوي اعتبر هذا التمثيل واجبًا وطنيًا، وهذا ما فعل».

ويروي سلماوي كيف أنه فوجئ حين أرسل جواز سفره الخاص -الذي يحمله باعتباره وكيلًا لوزارة الثقافة- إلى مكتب العلاقات العامة في وزارة الثقافة، المختص بترتيبات السفر، برد الجواز له من دون تأشيرة، مع ملاحظة تشير إلى أن المهمة التي يعتزم السفر من أجلها لا تخص الوزارة، وأن عليه أن يستخدم فيها جواز سره العادي. وقيل لسلماوي وقتها إن تلك توجيهات الوزير، وهو ما ثبت له بعد ذلك عدم صحته، لكنه في النهاية أرسل جواز سفره العادي إلى سفارة السويد وحصل في اليوم نفسه على التأشيرة المطلوبة (ص 120).

ربما كانت هذه التفاصيل مثالًا آخر على التركيبة النفسية المعقدة لكثير من المثقفين أو مدعي الثقافة، ممن يرون دومًا أحقيتهم دون غيرهم، ويرفعون لواء المظلومية، ولا بأس من أن يشنوا حملات تشهير وإساءة، للنيل من خصومهم أو منافسيهم.

القصة متكررة في كل مكان وزمان. شفى الله المثقفين من أمراضهم المتوطنة.

إعلان