لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

شكاوى جدنا الفلاح الفصيح

د. أحمد عمر

شكاوى جدنا الفلاح الفصيح

د. أحمد عبدالعال عمر
07:01 م الأحد 06 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


"إن جوفي يضيق بما فيه، وإن قلبي ينطق. هناك صدع في السد، والمياه تندفع منه، لذلك افتح فمي لأتكلم. ليس هناك من صامت إلا وقد أنطقته. ليس هناك من نائم إلا وقد أيقظته، وليس هناك من جاهل إلا وقد جعلت منه حكيمًا. أقم العدل من أجل الإله الذي أصبح عدله قانونًا للعدل؛ فالعدل للخلود، وهو يهبط مع صاحبه إلى القبر، حينما يُلف في كفنه، ويوضع في التراب، فلا يمُحى اسمه من الأرض، بل يُذكر لأنه أقام العدل، وذلك هو شرع الإله".

هذه كلمات في قمة السمو والحكمة، جاءت على لسان جدنا "الفلاح الفصيح" الذي عاش في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد بالقرب من مدينة "أهناسيا" بمحافظة المنيا، التي كانت عاصمة للأقليم الثامن عشر من أقاليم مصر العليا. وقد حفظتها لنا البردية الشهيرة التي تُعرف باسم "بردية الفلاح الفصيح".

تتضمن البردية التي نجهل اسم مؤلفها نص المرافعة التي قدمها الفلاح الفصيح للحاكم أو "مدير البيت العظيم" صارخًا ومتألمًا من ظلم موظفين الحاكم، ومطالبًا إياه بتوخي العدالة، وإقامة العدل في الأرض، وإصلاح الأوضاع، ورد المظالم، وتحمل المسؤولية عن سوء تدبير وسلوك رجاله.

وقد قدم الفلاح الفصيح مرافعته بشجاعة منقطعة النظير دون خوف أو تردد، لأن المصري القديم كان مسكونًا بوصية أخلاقية جاءت على لسان الإله "رع" تقول: "تكلم الصدق، وافعل الصدق أو الحق؛ لأنه عظيم، وأنه قوي، وأنه دائم"؛ ولهذا قال مخاطبًا الحاكم:
"أيها الحاكم، ﻻ تكن كالسيل يجرف من يشكو
أيها الحاكم ﻋلى كل من فني ومني لم يفنَ
إذا ذهبت إلى بحر العدل فإن الهواء لن يمزق قاعك
ولن يتباطأ ﻗﺎربك ولن يُكسر لك مَرسى
ولن يحملك التيار بعيدًا
ولن ترى وجها مرتاعًا
ذك ﻷنك ﺃﺏٌ لليتيم
ﻭﺯﻭﺝ للأرملة
ﻭﺃﺥ للمنبوذ
ﻭﺭﺍﻉ لمن ﻻ ﺃﻡ له.
دﻋﻨي أﺭﻓﻊ اسمك في هذه الأرض فوق كل ﻗﺎنون عادل
أيها الحاكم المنزه عن الجشع
الخالي من الخوف
يا من تُحطم الظلم ﻭتُقيم العدل
استجب لصيحتي عندما ينطق ﻓمي
خلصني من شقائي انظر ﺇليّ إني مثقل بالهموم
أنصفني لأني تائه
كل عون للإنسان هو منك
فأنت كالفيضان الغامر
كالنيل الذي يُكسب الحقول خضرة
ﻭيخضب الأﺭاضي القاحلة
اقضِ ﻋلى السارق
احمِ التعيس
ﻻ تكن كالسيل يجرف من يشكو
احذر فإن الحياة ﺍلآخرة تدنو
ﻭاعمل بالمثل الذي يقول: ﺇﻗﺎمة العدل كالتنفس".

ويُلاحظ في تلك المرافعة، إلى جانب شجاعة وبلاغة صاحبها، أنها تركز على المسؤولية الأخلاقية للحاكم، وتربط مصيره في الحياة الأخرى بقيامة بواجبه بعدل تجاه الناس في الحياة الدنيا.
كما يُلاحظ أيضًا أن قائلها تجاوز مظلمته الخاصة وشأنه الشخصي، ليصبح مُصلحًا اجتماعيًا وسياسيًا يُقدم النصيحة للفرعون حول صورة وسمات الموظفين الجدد العدول، الذين يأمل أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة والإدارة في مصر.

وفي كتابه "فجر الضمير"، ذكر لنا جيمس هنري برستيد أن الفلاح الفصيح وغيره من المصلحين السياسيين والاجتماعيين المصريين في تلك الفترة لم يخب ظنهم، ولم تذهب جهودهم سُدى، حيث استمع الحكام لهم، وعمموا توجيهاتهم على رجال الدولة، فظهر على أرض الواقع جيل جديد من رجال الإدارة والموظفين في الحكومة المصرية جسدوا بحياتهم وقناعتهم النموذج الكامل لرجل الدولة.

ويُعطى "برستيد" مثالًا على ذلك، هو الأمير "أميني" رئيس الحكومة الإقطاعية في منطقة "بني حسن"، الذي كشف قبره عن أثر جليل القدر في التاريخ الاجتماعي والإداري لمصر، عبر ما كتبه الأمير "أميني" في نقش على باب مقبرته، حيث قال:

"لا توجد بنت مواطن قد عبثت بها، ولا أرملة عذبتها، ولا فلاح طردته، ولا راع أقصيته، ولا رئيس خمسة سلبته رجاله مقابل ضرائب لم تسدد. ولا يوجد بائس بين عشيرتي، ولا جائع في زمني... وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل، ولم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته".

وقد أشار "برستيد" إلى شيوع تلك القناعات لدى حكام المقاطعات الأخرى، بما يُثبت أنها كانت توجيهًا عامُا من الفرعون رأس السلطة، ويُعطي مثالًا على ذلك بالنقوش التي وجدت مرسومة على محاجر المرمر في "حتنوب" التي توضح أن الحاكم في تلك المنطقة كان رجلًا " أنقذ الأرملة، وواسى المتألم، ودفن المسن، وأطعم الطفل، وعال كل مدينته في زمن الجدب، وهو الذي أطعمها في وقت القحط، وهو الذي زودها بسخاء بلا تمييز، فكان عظماؤها مثل أصاغرها".

ومن هنا ندرك أن بلاغة "جدنا الفلاح الفصيحة" وشجاعته لم تذهبا بلا فائدة، وأنه لم يكن صارخًا في البرية مثل يوحنا المعمدان، وأن كلماته وبلاغته وحكمته السياسية والاجتماعية وحلمه برجل الدولة النزيه والعادل، وتفاعل الحاكم مع شكواه وأحلامه - تكشف عن عظمة تاريخنا الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، وهي عظمة يجب أن تُشعر كل مصري أصيل بعظمة التاريخ الإنساني والحضاري الذي يحمله على ظهره.

إعلان