إعلان

"لمسة البعث".. مقاربة عما بين المسرحية والقصة من اتصال

د. عمار علي حسن

"لمسة البعث".. مقاربة عما بين المسرحية والقصة من اتصال

د. عمار علي حسن
07:46 م الأربعاء 23 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

ما الذي يربط المسرحية بالقصة القصيرة؟ للوهلة الأولى نقول إن كليهما في الأصل كتابة سردية، مركزها حكاية، تتعدد طرق عرضها وفق ذائقة كل كاتب ومهارته وربما إلهامه في لحظة إبداعها، وبالطبع وفق تقنية النوع الأدبي نفسه، لكن ماذا إذا كانت المسرحية "شعرية"؟ هل نجد في هذه الحالة أي رابط مع القصة؟ وهنا يمكن القول إن غنائية القصة القصيرة قد تغني عن إجابة مستفيضة. فالقصة تقف كثيرًا في منطقة وسطى بين الشعر والرواية.

يبدو الأمر سهلا مع المسرحية ذات الفصل الواحدة، فهي محددة الشخصيات والمكان والزمان، فإن وضع الأديب عددًا منها في كتاب واحد، نكون أمام حالة تشبه إلى حد ما المجموعة القصصية، مع اختلاف تقنيات الكتابة وأساليبها بالطبع. وأيام كانت المسرحيات تُقرأ بإفراط، حتى لو لم يتم تمثيلها على خشبة أمام جمهور، كان بعض القراء يفضل هذا اللون من المسرحيات، اتكاء على هذا التحديد والاختزال.

ومع هذا فإن المسرحية ذات الفصول المتعددة، تراوح أحيانا في بنيتها الخفية بين الرواية والقصة، وإن كان الشكلان الفنيان لاحقين على المسرح تاريخيا. فالرواية استوعبت المسرح، كما رأينا ما فعله نجيب محفوظ في روايته "ثرثرة فوق النيل"، فيما أورد في بعض مجموعاته القصصية مسرحيات من فصل واحد، بدت منسجمة مع ما قبلها وما بعدها من قصص، وتوحدت معها في العالم الذي يتحرك فيه السرد المحفوظي وفي أسلوب الكتابة بالطبع.

والمسرحية متعددة الفصول قد تكون في مقاربة مع "المتتالية القصصية"، لا سيما إن جاءت مشاهدها متصلة منفصلة، أي تتغير الشخصيات من مشهد إلى آخر، وإن كان جوهر الحوار يندفع في اتجاه فكرة واحدة، أو يسعى لتحقيق هدف واحد حدده الكاتب ابتداء.

في إطار هذا التصور يمكن قراءة مسرحية "لمسة البعث.. من أيام العاشق الأندلسي"، للأديب أحمد سراج، والتي تدور أحداثها أيام العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث بلاد الأندلس، التي شهدت أيامها حكاية أثيرة بين الشاعر والوزير ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، تأخذ مكانها في الثقافة العربية كإحدى الوقائع الساحرة الملهمة، المتشاحن والمتفاعل فيها العشق مع الألم والكراهية التي تصنعها الدسائس والمؤامرات، والتي أفضت في النهاية إلى سقوط إمارات المسلمين في بلدان صارت في أذهان المحدثين والمعاصرين منهم هي الفردوس المفقود.

و"لمسة البعث" هي مسرحية شعرية، بما يعطيها أول خاصية للقصة القصيرة، حيث الحكي المكثف والشاعري أحيانا، ويقترب الأمر من القص إن كان الشعر حكائيا، فالكاتب/ الشاعر، أو الشاعر/ الكاتب اختار هنا مزاوجة بين "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر"، ولم يختر القصيدة العمودية مثلما فعل بعض الشعراء في مسرحياتهم التاريخية كعزيز أباظة وفاروق جويدة. ومثال للأولى ما بدأت به المسرحية حيث قالت:

"لو أصحو من نومي

فأرى غولا

يمضي بك في عمق الصحراء

لو تحرج روحك

من طعن أشلاء".

بل يمعن في موسيقى هذا الصنف من القصيدة، حين يقول:

"لا منجى لك مني

يا قرطبة الزهراء

ستئن كجارية تحتي

ستئن لسيفي

لحكمي

هذا وقتي".

ومثال للثانية:

"الفرائس تعرف آكلها

وتشم مخالبه

مهما يتخفى

لهذا سجنت".

ومع استمرار هذين النوعين لم نكن طوال الوقت أمام صوت الشاعر وحده، بل أمام شخصيات جعلها هو شاعرة، لتمد النص بما أريد له، وبذا لم نظل طوال الوقت مع "ذاتية" الشعر ومفرداته، إنما كان هنا وسيلة لشخصيات متعددة يعبر عنها الروائي ويستنطقها، ويتركها المسرحي تنطق بنفسها، أو هكذا نتخيل، لكن الكاتب لم يفعل هذا بالطبع، بل اقتسم معها الأمر، فنطق معها، أو صاحبها في النطق؛ لأنه ببساطة تخيل ما قالته في إطار سياق أوسع درسه أو اطلع عليه جيدًا.

يضاف إلى هذا اختيار الكاتب لملمح واحد، أو جانب أحادي، من ملحمة تاريخية شهيرة، كتبت عنها روايات عديدة، ودبجت فيها حوليات تاريخية مشهودة، وكل محطة فيها جديرة بأن تمنح أي كاتب سردًا طويلًا مفصلًا. فسراج كان مسكونا في نصه هذا بإجلاء علاقة المثقف بالسلطة، وهي مسألة تشغله بالفعل حتى في مقالاته وتعليقاته وأحاديثه خارج الأدب. فزمن المسرحية ومكانها وشخوصها تفتح حكاية متسعة عن خبايا سقوط إمارات الأندلس وخفاياها، أو عن العشق بين ابن زيدون وولادة، وهي التي طالما جذبت شعراء ومؤرخين وكتابًا ليتناولوها. والمثقف هنا هو ابن زيدون، والسلطة تتمثل في المعتمد بن عبَّاد.

ومنذ البداية يضع الكاتب حدًا بين الاثنين يظهره التناقض في وصف كل منهما، فالأول عرفه بأنه "شاعر ووزير في التاسعة والستين، يتحرك ببطء، وينطلق كلماته في هدوء مختلط بالحزن كثيرا"، وكأنه هنا يصف طريقة أداء المثقف في أيام الانكسار، حيث يأتي متأخرًا؛ لأنه يمشي على مهل، أو يتحرك ببطء، حسبما وصف، وإن تحدث يتكلم في هدوء لا يليق بلحظة أزمة تاريخية، تحتاج إلى كلمات حادة قوية دون مفارقة الحكمة بالطبع.

ليست هذه هي الفكرة الوحيدة التي تدور حولها المسرحية، بل تبدو فكرة جانبية قياسًا إلى الرؤية الأعمق والأشمل التي دارت حولها أغلب الأعمال التي تتعلق بالأندلس، وتعاملت معها مكانًا وزمانًا باعتبارها فردوسًا مفقودًا، لا بد من الحنين إليه. وفي هذا متسع لعمل روائي أو مسرحي أو بحثي تاريخي أو ملحمي شعري، كما جرى في حالات عدة، لكن المسرحية التي نحن بصددها تضيق عن قصد لتنظر إلى هذه المسألة الكبرى من خلال مسألة محددة، فرعية لكنها عميقة، متمثلة في الثنائي العاشق، وهو ما التقطه من كتب غلاف المسرحية بذكاء وفطنة حين طرح سؤالًا مهمًا هو: "هل تذكر الأندلس بزهوها وذبولها إلا مقترنة بقرطبة الزاهية حاضرة الخلافة، التي ذبلت وصارت إمارة من إمارات الطوائف، ثم المستباحة من العرب وغيرهم؟ من يمثل الزهو والذبول إلا العاشق الأندلسي الوزير السجين الشريد ابن زيدون، والفاتنة الباهية الزاهية المحتجبة المكسورة ولادة بنت المستكفي؟".

فهذه العبارة، التي هي أشبه بخلاصة للمسرحية، تقول إن الكاتب قد اختار زاوية صغيرة؛ ليشرح من خلالها الأركان والجهات كلها، أو اتخذ من الجزء دليلًا للبرهنة على الكل، وهي إن كانت مسألة مفهومة في أي عمل أدبي لا يشغله تسجيل التاريخ أو محاولة استعادته كما جرى، فإنها تقربنا من عالم القص، إذ يمكن لتقنية القصة القصيرة أن تفعل الأمر ذاته، فتكون جانبية ضيقة متخذة لزاوية معينة، تنزع إلى التكثيف، لكنها مفتوحة على دلالات واسعة، أو دالة على ما هو أكبر من لحظتها الزمنية ومكانها وفكرتها المباشرة.

لكن تعدد الشخصيات في المسرحية قد يبعدها في نظر البعض عن الميل إلى القص منها إلى الرواية، إذ نحن أمام خمس عشرة شخصية، رئيسية وثانوية، يستنطقها الكاتب شعرًا كي تنسخ كل خيوط الحكاية، إلا أن كثيرًا من القصص، وليست الروايات فقط، شهدت مثل هذه التعددية، رغم الاختزال والتكثيف والتركيز والإزاحة لكثير من التفاصيل. فكثرة الشخصيات ليست دليلًا وحيدًا ونهائيًا على اتساع العالم أو المجال السردي، فكاتب القصة قد يجد نفسه، وهو مستسلم للتدفق أو التداعي الفني، يطلق في فضاء النص شخصيات تتوالى؛ لأن لها علاقة بالحكاية، ولا تكتمل إلا بها.

وأعتقد أن أحمد سراج كان مسكونًا في مسرحيته هذه، على تعدد شخصياتها، بحكاية مركزية تتعلق بالشاعر ومحبوبته، فمنها يبدأ كل شيء ويعود، بل بهما ولهما أيضا، إذ أن الفصل الأول ورغم أن الحديث فيه يدور على لسان ابن عمار وزير المعتمد وحاجبه، فإن جوهر الحوار بينهما هو ابن زيدون، الذي سيطر على النص كله، سواء بالحديث عنه أو بحضوره هو كمتكلم، حتى أن السيطرة امتدت لتنحي جانبًا المحبوبة التي لم تظهر إلا في آخر النص، لتضع لمستها في روح رجل تتداعى أحلامه على وقع انهيار الإمارة الجميلة التي أخلص لها.

إن الشاعرية والحكاية المركزية والإسناد إلى شخصية محورية ووحدة السياق، تمنح هذه المسرحية روح القص، وهي مسألة طبيعية؛ لأن المسرحية في النهاية حكاية شأنها شأن القصة، لكن ما يزيد على هذا هو تقنية الكتابة نفسها، فبعيدا عن مقتضيات التمسرح التي تفترض أن هناك خشبة يقف عليها من يقومون بالتمثيل، فإن ذهنية القص مسيطرة هنا إلى حد ما، وليس هذا بغريب على كاتب قادر على كتابة الرواية قدرته على كتابة المسرحية، رغم غزارة إنتاجه في الثانية مقارنة بالأولى.

إعلان