لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

د. عمر عبدالعزيز.. و"سلطان الغيب"

د. أمــل الجمل

د. عمر عبدالعزيز.. و"سلطان الغيب"

د. أمل الجمل
07:00 م الإثنين 21 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يرسم لنا الروائي اليمني الكبير د. عمر عبدالعزيز في أحدث رواياته "سلطان الغيب" - والتي يقوم فيها بدور السارد العليم ويصف نفسه بـ"العابر" - ملامح شخصيات استثنائية، هو نفسه أحد شخوصها، كذلك أخوه ووالده وجده وعمته أهم أبطالها، إضافة إلى أفراد من عائلته، وعدد من أبرز أصدقائه وصديقاته، ورجالات الحارة، ونساء تناسخت أرواحهن عبر الزمان والمكان في أنماط من التعبير الشاعري الذي يتخلى بدرجة كبيرة عن الحبكة التقليدية كأحد عناصر التشكيل الرئيسية في الصيغة السردية. مع ذلك تحفل صفحات الرواية بالطاقة الدرامية، وعناصر من المفاجأة والتشويق، وإن ظلت تتسم بالنزعة الصوفية والإيقاع التأملي الشفيف، فالسرد يسمح بالاستطراد والوصف وتداخل الأزمنة واقتحام التأملات وتداعي الذكريات في لوحة تشكيلية غنائية. مع ذلك لا تخلو بعض المشاهد من عنصر القسوة، وأسلوب الجروتسك أي المبالغة في التشويه، وقلب الموضوعات البصرية والتوقعات المنطقية.

يجمع بين الشخصيات أنها تحلق بخيالها على أجنحة الحلم والذكرى، بينما نتأمل حيواتها في عوالم النظر والرؤيا التي لا حدَّ لها ولا حدود، وتنفتح أبواب الحقيقة الماورائية على مصراعيها، ونتأكد معها أننا "نرى بعيون محدودة، وأن ما نراه لا يمثل إلا المُيسَّر لنا بحسب طاقتنا البصرية الخاصة، بينما البصيرة تتجاوز المحدودية وتكشف الحجب.

عالم الشخصيات

يلجأ الروائي مرات عدة إلى المزج السينمائي الناعم، إذ ينفذ من عالم الجد المجارح إلى الجد الأكبر الملقب بـ"الطيَّار"، ويكشف الروابط المتينة والفروقات.. وكيف كان المجارح منجذباً لعالم جده، وشغفه بالطب وقراره بالسفر، لكنه "شعر بعد حين بأن دربه نحو المعالجة الشافية الوافية للمرضى مقرون أيضاً بالأدوات والقيم المعرفية العقلية المتأوْرِبة، وهكذا قرر في ليلة ليلاء أن يسافر عبر دروب الشمال المجهول، وأن يصل إلى حيث يجد الأدوات الجراحية، وكان عليه لإنجاز هذا الهدف أن يسترخي في أحضان العمل المتواصل طوال درب السفر المفتوح على المجاهيل الشمالية".

إن "سلطان الغيب" هي رواية رحلة/ طريق. أو بالأحرى هي رحلات، رحلة السارد العليم ورحلات الآخرين التي يخبرنا عنها مثل الرحلة إلى شبه الجزيرة الإيطالية، أو من وإلى اليمن والصومال وإثيوبيا. فالسفر/ الرحلة هنا يتم طرحه طرحًا مجازيًا متعدد الدلالات على مستوى الصورة المطرزة بخيوط شبحية من الفانتازيا الواقعية، والمؤثرات البصرية، والحوار الشحيح البليغ. هكذا تتشكل الدراما في كل الرحلات، بما أوتيت من ثمارها سواء مع الجد الأكبر الطيار، وحفيده الحمودي المجارح، ثم عبدالعزيز، وأخيرًا مع الدكتور عمر السارد والمؤلف الملقب بـ"العابر" في متن السردية، فقد "ورث أبناء الطيَّار من جدهم الأكبر تلك القابلية الاستثنائية للترحال والهجرة، وكأن الأولاد والأحفاد يُعيدون سيرة الأسلاف بتواتر كرونولوجي يحيل الصُّدف الحياتية إلى ضرورات موضوعية".

تناسخ مريوم

كذلك، تحكي الرواية عن نماذج بشرية قد تبدو أغلبها فولكلورية، لكن روعتها تنبع من كونهم أصحاب قدرات استثنائية، الجد الأكبر الطيَّار، والمحمودي وابنه عبدالعزيز ثم حفيد الطيار المولود بعد مائة من رحيل جده الطيار، وهو ذاته السارد العليم -الملقب بـ"العابر" على اختلاف دلالات اللفظ- والمبدع لشخصيات درامية متفردة تبدأ مع عوض الأحدب المتأنق الخبير في الأزياء والعطور، والبهلول دمدم، وعمر المصور الأعور والفنان المداوي لداء النسيان، وسيدة الصمت الكبير، وصالح الموصوف بالكهربائي القادر على الإمساك بسلك الكهرباء القاتل دونما خوف وضرر. من دون أن ننسى شخصياته النسائية التي لا تقل استثنائية في سحرها وبهائها المتمرد مثل مريوم وتناسخها في مرام، ثم في غيرها من الشخصيات، ومن قبل تماسها مع شخصية جدة الراوي بلة علي دقوود، ثم صديقته القديسة اعتدال. إنهم جميعاً يمثلون المرجعية الصادحة بمعقول اللا معقول في زمن الحارة، حيث عرفت "بلاجة عرب" العوالم الافتراضية والعوالم المتوازية منذ أمد بعيد، فقد كان لسكانها طرائق وأنماط حياتية متعددة، بقدر كونها متفردة.

تكتسب الرواية بعدًا فكريًا إضافيًا كونها تخلق اشتباكًا رقراقًا بين قضايا الإنسانية والواقع الاقتصادي، والسياسي والفكري للمجتمع، سواء في حاضر الأجيال أو ماضيها. فعبدالعزيز كان "والده ووالدته وإخوته وأخواته جميعًا يصطلون بنيران المقدمات الدرامية للحرب الأهلية، وبدت الحرب ذاتها أقل فداحة وايلامًا لهم.. إنها سيكولوجية التعامل مع النتائج الحتمية لظلالات السياسيين وعرابيهم الأيديولوجيين."، إذ يفوت الروائي على سنوات الحرب المختلفة، ومنها حرب الطليان والإنجليز على الجبهة الإثيوبية أثناء الحرب العالمية الثانية، أو الثورة على سياد بري في الصومال، أو الوجود الإيطالي، والهجوم الأمريكي والمواجهة مع السلاح الروسي. ثم تنفيذ الإعدام ببعض أئمة المساجد الرافضين للتعديلات في قانون الأحوال الشخصية، وقصف مدن شمال الصومال وخاصة العاصمة الإقليمية للشمال "هرجيسا".. مثلما يتطرق "لتواريخ الانعطافات التراجيدية الحادة. يوم أن حضر الفكر النيَّر، وانبرى جوستاف لوبون وابن خلدون وكارل ماركس للمعنى الذي حملته الانعطافة الصومالية، وكل انعطافة .. منذ ثورة العبيد في روما، مرورًا بالثورة البلشفية الروسية، والثورة الصينية، وحتى شواهد الربيع العربي المعاصر".

الغياب الرائع للحوار

من الأمور المدهشة واللافتة -أيضًا- في متن الرواية غياب الحوار بشكل شبه كامل، إننا نقرؤه في مرات نادرة جدًا، لكننا لا نشعر بغيابه، فقد استبدله الروائي بأبيات صوفية رقيقة مُعبرة، أو ببعض الأقوال المأثورة التي تفي بالغرض، إضافة إلى ثراء الرواية بالمؤثرات السمعية البصرية المتمثلة في ترانيم المنشدين الصوفية، وغناء الطبيعة وما بها من طيور وأصوات البحر والرياح والمطر.

إن توظيف الحوار بـ"سلطان الغيب" يُذكرني بحديث الأديب المصري العالمي الحائز على نوبل نجيب محفوظ عندما انتقد الحوار في السينما المصرية فقام بالتمييز بين الحوار والكلام، ودلل بمنطق سليم بليغ عن أهمية أن يكون الحوار مكثفًا معبرًا مُضيفًا للنص. وهذا ما فعله الروائي د. عمر عبدالعزيز بمهارة نادرًا ما نراها في الروايات المعاصرة. فالحوار الدرامي قليل جدا لكنه حين يتواجد ينثر كل الإضاءات الممكنة، حيث توليد المعنى الدرامي يكتسي بدلالة حسية واضحة في التعبير اللغوي لهذا النص السردي المتفرد.

إعلان